مقالات

دعوة إلي”مَنَاعَة وطنية” ضد “التطرف العنيف”

ينظم المركز الموريتاني للدراسات الاستراتجية في نواكشوط يومي 19 و 20 أغسطس الجاري مؤتمرا كبيرا حول المقاربة الموريتانية في مجال مكافحة التطرف العنيف يقال إن شخصيات سياسية من الوزن الوطني و الإقليمي و الدولي الثقيل عِلميا و سياسيا و أمنيا،.. وُجهت لها الدعوة للحضور و المشاركة منهم من أكد المشاركة الشخصية و منهم من انتدب من يُمثله من كبار معاونيه و خُبرائه…
و هي مبادرة محمودة تكاد تكون غير مسبوقة ستُذكر و تُشكر و تُؤجر لهذا المركز من طرف “الإدراك” العام الوطني. و قد سبق للمركز أن نظم ندوات عالية المستوي مشاركة و مخرجاتٍ حول إشكالات وطنية كبري منها ندوة حول موضوع الاستراتجية الموريتانية في مجال محاربة الإرهاب.
و إذا كان موضوع الندوة الدولية المرتقبة يتحدث عن “مقاربة التطرف العنيف” و موضوع الندوة الاولي قد عالج “استراتجية محاربة الإرهاب” فمن الواضح أن”المقاربة أُمٌ الاستراتجية” و أن التطرف العنيف أشمل و أوسع موضوعا و أقل شحنة سلبية من الإرهاب الذي أضْحَتْ محاربته “حِصَانَ طِرْوَادَةٍ” ضد الإسلام و المسلمين.
و قد مكنت الاستراتجية الموريتانية في مجال محاربة الإرهاب بشقيها “الناعم” و “الصلب” من إعطاء نتائج إيجابية تمثلت في توبة العديد من الشباب” الجهادي” الذين تبين لهم بعد محاورة أجلاء علمائنا أن فهمهم لمواضيع الجهاد و الولاء و البراء مغلوطٌ سقيمٌ و هؤلاء الشباب يمارسون الآن حياتهم المدنية بمواطنية اعتيادية و لم تُسجِل المصالح المختصة “رِدًةَ ” إلا واحد منهم من أصل ما يربو علي خمسين فردا يشاع أن إطلاق سراحه كان فيه أصلا “ما يُقال”. ضف إلي توبة أولئك القوم ما يلاحظ من “شبه وقف” انتساب الشباب الموريتاني للتنظيمات المتطرفة.
كما سمح الشق العسكري و الأمني للاستراتجية الوطنية لمحاربة الإرهاب باعتراف جميع الشركاء الإقليميين و الدوليين من إعادة هيكلة المنظومة العسكرية و الأمنية تكوينا و تجهيزا مما أعاد “للصٌمَاتِ الأكبر”” La grande muette هيْبَتَهُ ومَكًنَ حتي الآن من تحييد الخطر الإرهابي و “تحرير” و تأمين كامل التراب الوطني .
و رغم نجاحات الاستراتجية الوطنية لمحاربة الإرهاب فإن الجميع ابتداء من السلطة و مرورا بالأحزاب و النقابات و مراكز “صناعة” الفكر و الرأي و القرار،…مُطالَبٌ باليقظة و الحذر و الدراسة و الاستشراف لأن خطر التطرف العنيف في بلادنا -علي غرار سائر دول المنطقة- لا يزال قائما و واردا بفعل عوامل “مُؤَجِجَةٍ” لا يسمح مَقامُ المقال بأكثر من الإشارة إلي بعضها:-
أولا: حضور الفكر الجهادي في المشهد الإسلامي الوطني: يشكل وجود بعض الشباب “الحامل”و ” الناقل” “لمرض” الفكر الجهادي المتطرف أحد “مخادع” تأجيج التطرف العنيف في بلادنا،و إن كان غالبية أولئك الشباب إما موقوفون في السجون الموريتانية أو طُلقاءُ فارون من العدالة ضمن التشكيلات الجهادية بالساحل و الصحراء…
ثانيا: إرث الفوارق الاجتماعية و المظالم الحقوقية:يمثل العِبْءُ التراكمي الثقيل في نقص “المعالجة الرشيدة” لإرث الفوارق الاجتماعية و المظالم الحقوقية في بلادنا أحد أكثر “مكامن” التوتر و التطرف العنيف حساسية و قابلية للاستغلال من طرف “الأعداء الدائمين” للبلد و “الخصوم الظرفيين” لأية سلطة قائمة.
ثالثا: الاضطراب الأمني في الجوار الحدودي: يعاني الجوار الحدودي لبلدنا من اضطرابات أمنية حساسة كصراع الصحراء الغربية و الوضع في الشمال المالي و تمرد “الكازمانص” يالسنغال و ” الكرة الملتهبة” بليبيا و من الطبيعي أن نتوجس في بلادنا خيفة من عدوي الصراع و التطرف العنيف.
رابعا:استفحال المظالم العربية و الإسلامية:لا تزال وقاحة الاحتلال الصهيوني لفلسطين و الأراضي العربية المحتلة و الصور اليومية الفاضحة لهوان المسلمين علي غيرهم في العديد من مناطق العالم أحد أبرز مواضيع جذب الشباب الإسلامي إلي التطرف العنيف و ليس الشباب الموريتاني استثناء من الشباب الإسلامي.
خامسا: استعصاء اجتثاث الفساد و “التعالي علي القانون”:رغم جهود السلطات العمومية في مجال الحرب علي الفساد خلال الفترة الأخيرة و التي حققت نجاحات ميدانية و إعلامية و نفسية فلا يزال الفساد و “التعالي علي القانون” حديث الساعة و “الوِرْدَ شبه اليومي” للمواقع الإخبارية و “الصالونيات” مما يشكل أحد “مواطن” التطرف العنيف من خلال تأجيج مشاعر الغبن و الشعور بالدونية و عدم الثقة في مشروع الدولة الوطنية خصوصا لدي الشباب المنحدرين من “الفئات الأقل حظا” تماما كما هو الحال في الكثير من الدول المشابهة.
و الأمل معقود علي هذا المؤتمر الدولي الهام حول المقاربة الموريتانية في مجال محاربة التطرف العنيف في مساءلة الاستراتجيات الماضية و تصور مقاربة شاملة أتمني أن تكون جريئةً و مُجَدِدةً تهدف إلي تحقيق ” مناعة وطنية” ضد التطرف العنيف و أقترح أن تعالج تلك المقاربة خمسة محاور: محور تربوي و علمي و محور سياسي و إعلامي و محور اجتماعي و اقتصادي و محور أمني و عسكري و محور التعاون الإقليمي و الدولي.
و في انتظار مخرجات المؤتمر المذكور تُلِحٌ علي ذهني مقترحاتِ التوصياتٍ التالية الهادفةٍ إلي تعزيز المناعة الوطنية ضد الإرهاب و جميع أشكال التطرف العنيف تلك المناعة التي تتمتع بها بلادنا و التي جنبتنا حتي الآن بفضل الله ما آلت إليه دول أخري من الغرق” في بحر لُجِيِ” من الفتنة و الاقتتال:
1. زيادة الميزانية العسكرية و الأمنية السنوية زيادة معتبرة تُخصص لدعم قدرات القوات الخاصة المكلفة بأمن الحدود و محاربة التطرف العنيف غير عابئين “بالرواسب النفسية” للنظرية المتجاوزة القائلة باعتبار الإفراط في تقوية الجيش و قوات الأمن في إفريقيا و العالم الثالث تهديدا للديمقراطية و التداول السلمي علي السلطة؛
2. إنشاء مرصد وطني كثير الموارد المالية عالي المستوي العلمي لدراسة واستشراف كافة صنوف التطرف العنيف: يُعني بالدراسات المجتمعية العلمية الرصينة من أجل رصد اتجاهات تطور مخاطر جميع صنوف التطرف العنيف سبيلا إلي الوقاية منها.
3. إنجاز مؤلف علمي مختصر و مُوَطًإ من طرف الهيئة العليا للفتوي حول موضوع الرد علي شبهات التطرف و الغلو في الدين الإسلامي و “الجهاد الأعمي” و تأصيل ثقافة التسامح و السلم و الاعتدال يشارك في تأليفه العلماء الخمسة الأوائل في موريتانيا- ضمانا لحيازته للحِجية و الإجماعية و الهيبة العلمية اللازمة- علي أن يُقرر رسميا تدريسه في جميع الجامعات و المعاهد و المحاظر و الشعب الإسلامية و يَحْسُنُ أن تُستخرج منه مقتطفات مبسطة للإدماج في مناهج التربية الإسلامية و التربية المدنية المقررة في المستويات الثانوية و الإعدادية و المدارس المتوسطة؛
4. إنشاء جهاز سياسي و إداري رسمي كبير غير تقليدي مكلف بتصفية إرث الفوارق الاجتماعية تحول إليه اعتمادات مالية كبيرة أولها محاصيل ضريبة جديدة تدعي ” ضريبة التضامن علي الثروة” تؤخذ من الأغنياء إِطْفَاءً لِغَيْظِ الفقراء و المغبونين و إشعارا لهم بإسهام الأغنياء في مجهود المساواة و تصفية الفوارق علي أن يُعهد بقيادة هذا الجهاز الإداري إلي شخصية وطنية إجماعية الكفاءة و القوة و فوق كل الشبهات السياسية و المالية.

المختار ولد داهي،سفير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى