
” القسوة” حين تنهض في الواقع أسبابها و تفقأ العين مبرراتها لا تكون مجرد عدل و حزم و أداء للأمانة و اخلاص للمصالح العامة ، بل هي ذات الشفقة و عين الرحمة المنبعثة من الشعور الراشد و الإحساس المسؤول .
و صدق أبو العلاء حين ضج الكون بصرخته :
فقسا ليزدجروا ومن يكُ راحماً
فلْيَقْسُ أحياناً على من يرحمُ
و قد قال بعض السلف : ما تذكّرتُ قسوة أبي عليّ إلا دعوتُ له كثيراً بأن يرحمه الله تعالى ويعلي درجته عنده .
أرعى الأمانة لا أخون أمانتي
إن الخؤون على الطريق الأنكب
لا يمكن ل ” غفور رحيم ” أن تكون في موضع ” عزيز حكيم ” كما في قصة الأعرابي حين سمع الأصمعي يقرأ قوله تعالى ” و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاءا بما كسبا نكالا من الله ” فأتبعها خطئا بقوله ” و الله غفور رحيم ” ، فانتفض الأعرابي متسائلا لمن هذا الكلام ، فأجابه الأصمعي بأن هذا كلام الله ، فرد الأعرابي بأن هذا لا يصح ، فأعاد الأصمعي القراءة و قرأ الآية كما أنزلت ” و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاءا بما كسبا نكالا من الله و الله عزيز حكيم ” ولما انتبه الأصمعي لخطئه قال للأعرابي أو تحفظ القرآن ؟ فقال لا ، قال له كيف عرفت انني أخطأت ؟ ، فقال يا رجل عز فحكم فقطع ، و المقام لا يتناسب مع الرحمة و الغفران .
فبالفطرة السوية اهتدى هذا الأعرابي للمنطق الصحيح ..
متى يبلغ البنيان يوما تمامه
إذا كنت تبنيه و غيرك يهدم
كان المعتصم يكره التعلم في صغره ، و عبر يوما لوالده هارون الرشيد عن كرهه الشديد للكتاتيب ، فأشفق عليه و أعفاه من الذهاب إليها، لكنه لما كبر و أصبح خليفة يخطب و يحكم و هو بلا علم أسف و تحسر و كان يتألم دوما و يردد ( أضر بنا حب هارون ) .
تكون القسوة ” إيجابية” ، و تشكل انحيازا ضروريا للفرد و للمجتمع إذا كانت عادلة في سببها و مقدارها# و ساعية في هدفها إلى بناء نظام ينشئ الإنسان المتعلم و العادل و الشريف ، و يؤمن المجتمع و يحفظ لحياته انضباطها مع قواعد الحق و الصواب ، كما تكون ” سلبية ” مذمومة إذا تجردت من شرعية السبب أو المقدار و من سلامة المسعى .
و بعض السم ترياق لبعض
و قد يشفى العضال من العضال
لا أحد يحب الدواء لمرارة طعمه ، لكن الجميع يبحث عنه و يشربه تلمسا للشفاء ، و العبرة بالنتائج و المآلات .
شرب الدواء المر يعقب صحة
تحلوا و إن لم يحل منه مذاق ُ