في بدايات تسعينات القرن الماضي دخل علي في شقتي بالرباط شاب نحيف يتلفت يمنة و يسرة و يحرك يديه بكل اتجاه وسألني و انا في طريقي للمطبخ لأقدم له واجب الضيافة : هل صحيح انك تحمل جوازا دبلوماسيا .
استغربت فنحن لم نلتق سابقا و لم يمض على دخوله اكثر من دقيقة و لكنني رغم استهجاني لسؤاله لم اجد بدا من جوابه . اخرج صاحبنا آلة حاسبة و بدا يضغط ازرارها في سرعة غريبة و اشار لرقم متبوع بالعديد من الاصفار و قال هذا ما ستكسبه في الاسبوع الواحد . أخذ يشرح لي في عجالة انه هدية الله لي و أن حياتي ستتغير جذريا بدأ من اليوم . عدنا لغرفة الصالون و انا في اشد حالات الحيرة و هو في أقصى حالات الفرح و الحبور. اخذ يتحدث بانفعال شديد لمدة طويلة و يشرح لي كيف سأصبح غنيا في فترة قياسية . بعد دقائق فهمت أنه يحترف تهريب السجائر و مادة تستخدمها النساء لتبييض البشرة اسمها “شارلي” و ان المطلوب مني فقط هو السفر كل اسبوع الى موريتانيا على حسابه الشخصي و العودة بحقائب محملة بهاتين المادتين. طبعا رفضت بدون ادنى تردد و ابديت له بأدب جم ان الدراسة هي غايتي الرئيسية. كاد صاحبنا يجن و اخذ يستميت بكل وسيلة ليقنعني بأن ادخل معه في تجارته. تكلم لي عن الجميلات اللواتي سيرتمين على اقدامي عندما تمتلئ جيوبي من النقود و عن الاحترام الذي سألقاه من المجتمع و السيارات الفارهة التي سيركبني اياها في اقل من شهرين . ابديت له عدم استعدادي للمخاطرة بسمعتي و سمعة الاسرة مقابل مال الدنيا. ضحك بهستيرية و قال لي ان اكبر فضيحة هي الفقر و اخذ يشرح لي انه يسيطر تماما على الجمارك في مطار الدار البيضاء. مضت سنوات و سنوات و تم اعتقاله في المغرب ابان المرحلة الانتقالية من حكم الرئيس اعلي و علمت بتدخل عدو الفساد و المفسدين في قضيته بعد رفض ولد محمد فال التوسط له ،من ذلك اليوم تحولت حياة صاحبنا جذريا و تحول العمل الفردي الى عمل منظم و تيسرت الامور و حلت البركة و انتقل في تخصصه من تخريب اقتصاد المغرب الى تخريب اقتصاد موريتانيا عبر تهريب العملات الصعبة و سبق لي الاطلاع على ملف قضية دخلت اروقة القضاء بعد ان استولت احدى مهرباته على مبالغ ضخمة كان يرسلها في طيات جسدها الحميمة الى دبي. المهرب اليوم احد اعمدة الاقتصاد البلد يدير امبراطورية مالية عملاقة كما اصبح نائبا في البرلمان عن احد الأحزاب التي انشئها زعيم محاربة الفساد و مهمته الرئيسية هي صياغة قوانين الامة و يمتلئ صالونه بأنواع البشر من سياسيين يرغبون في أخذ النصح و التوجيه و موظفين يقدمون آيات الولاء و الخنوع و حاملي رسائل يريدون ايصالها لرئيس البلاد و رجال دين يتسمحون بأذياله و رجال اعمال يحاولون اقتناص بعض من فتات الصفقات التي يديرها . ليس هذا سوى نموذج بسيط من امبراطورية المال الحرام التي استمات قائد محاربة الفساد في الدفاع عنها و محاولة اقناعنا بنزاهتها و شرفها ، هنالك من هم اسوأ بآلاف المرات ، لصوص سابقون ، عمال نوادي القمار ، قوادون ، مرابون….. اليوم اسائل نفسي كيف ستكون حياتي لو انني قبلت عرض صاحبنا المهرب ؟ الأرجح ان عرضه كان سيوصلني الى اروقة البرلمان و ربما كرسي الوزارة و الأرجح انني كنت سأظهر على شاشات التلفزة القي الدروس في مخاطر الفساد و المفسدين و اتفنن في سباب المعارضة الحاقدة و اتغنى بنزاهة و انجازات و فصاحة و جمال بطل الأبطال محمد الحفار. نصيحتي لكل الطامحين للعمل الساسي و المهتمين بالشأن العام و الساعين لخدمة البلاد و العباد، اياكم ورفض أي عرض بتهريب السجائر و “شارلي” .