Uncategorizedمقالات

الرقص في ساحة السلطة / محمد المختار أحمد الحسين

في الأزمنة القديمة، كانت الحمى تشتعل في الجسد، فيرقص الناس حتى الموت كما حدث في شوارع ستراسبورغ. أما اليوم، فالحمّى تسكن الوعي. نحن لا نرقص بأجسادنا، بل بعقولنا. الحشود التي تصطفّ على جانبي الطريق لاستقبال الزعيم لا تختلف كثيرًا عن أولئك الذين تمايلوا في جنون عام 1518. الجميع يتحرك بإيقاع واحد، والجميع يصفّق في توقيت واحد، والجميع يبتسم وكأن العدوى قد انتقلت إليهم عبر الهواء.

 

إنها ذات العدوى القديمة، لكنها بثوبٍ جديد؛ عدوى الانفعال الجمعي التي تذيب الحدود بين الفرد والجموع. فالحشود السياسية المعاصرة ليست احتفالات بريئة كما تبدو، بل مختبرات نفسية تُختبر فيها قدرة الإنسان على التخلي عن ذاته. كل راية تُرفع، وكل نشيد يُذاع، وكل عدسة تلفاز تُركّز على “الجموع السعيدة”، هي جزء من طقسٍ جمعيٍّ مُعدّ بعناية لتجميد التفكير وإطلاق الانفعال.

 

في لحظات كهذه، يصبح التصفيق لغةً بديلة عن السؤال، والولاء بديلاً عن الوعي. من الصعب أن تقف ساكنًا بينما يندفع الآلاف من حولك بالهتاف، تمامًا كما كان من الصعب على سكان ستراسبورغ أن يروا راقصة الحمى ولا يلتحقوا بها. فالإنسان، منذ الأزل، يخاف أن يكون خارج الإيقاع.

 

لكن الفرق بين الحشد المقدّس والحشد الممسوخ، هو الوجهة لا الشكل. ففي الحج، مثلاً، يتجلى الذوبان في أسمى صوره، لكنه ذوبان يقود إلى الوعي؛ كل فرد يحج وحده بقلبه، رغم أنه يسير وسط الملايين. أما في الكرنفالات السياسية، فالذوبان يقود إلى الغياب؛ يغيب الفرد داخل جوقة المديح حتى لا يعود يعرف أين تنتهي ذاته وأين تبدأ الجموع.

 

الأنظمة التي تتقن صناعة الكرنفال تعرف أن السيطرة على الجسد أسهل من السيطرة على العقل. لذلك تُغرق الناس في طقوس الانفعال الجمعي لتلهيهم عن أسئلة المنطق، وتستبدل الحوار بالتأثر، والوعي بالتصفيق. وهكذا تتحول السياسة من فضاء للعقل إلى مسرحٍ ضخم للوجدان، ومن وسيلة بناءٍ للوطن إلى مرآةٍ ضخمةٍ يرى فيها الزعيم صورته مضخّمة بأضواء الجماهير.

 

لكن التاريخ يهمس لنا دائمًا بالحقيقة ذاتها: أن كل رقصة بلا وعي، مهما بدت مهيبة، تنتهي بالسقوط. وأن كل حشدٍ فقد وجهته، سيستفيق يومًا ليجد نفسه يرقص فوق رماد أوهامه.

يأيها ٱلناس إنا. وفي النهاية، لا يُراد لنا أن نكره الحشد، بل أن نُبصره. فالجماعة في أصلها نعمة، حين تُبنى على الوعي والتقوى والتعارف، كما قال الله تعالى: [ياايها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند ٱلله أتقىكم إن ٱلله عليم خبير] (13) سورة الحُجُرَات

 

 

بقلم: محمد المختار أحمد الحسين

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى