مقالات

ذكريات من تونس الخضراء

تعرفت على أديمها الجميل ، وجيدها المقدود ، وعطرها الفائح في مارس 2008 ، كنت ضمن مجموعة من زمﻻء المهنة في تدريب دام شهرين ، حطت بنا الطائرة الثانية فجرا في مطار قرطاج الدولي ، الضباب ثائر وقتها ضارب بأذرعه وأعﻻمه ، يحجب عنك أقرب اﻷشياء ، مما يزيد الشعور بالغربة ، ويضاعف اﻹحساس بالخوف وعدم اﻹرتياح لهذا البلد الملفوف في ثنايا الظﻻم ، يتخبط و يمور في امواجه المتوالدة في الفضاء .
لم يكن في استقبالنا احد ، وكان تعويلنا عكس ذلك ، خرجنا المطار بعد انهاء اﻻجراءات ، طلبا لوسيلة نقل تقلنا للمدينة ، قررنا اﻻستعانة فورا بسائقها لتحصيل سكن ﻻ ئق وفي مكان آمن بثمن يناسب مستوانا ، لكن تأخر الوقت و جهلنا للمكان ، و شيوع اﻻنحراف في مدن العالم وخاصة ضد اﻷجانب الظاهر من حالهم انهم ﻻ يعرفون شيئا عن البلد حتى الوجهة التي يقصدون ، قرار صعب ،أن تتخلى عن الحيطة والحذر في آخر ساعات الليل في عالم غامض يعج باللصوصية و الإجرام ،وتسلم نفسك ومالك للمجهول وﻷباطرة الليل ، دمك يتدفق ويسري فيك وكل أشيائك معك ، ربما يقودك السائق
الى عصابة وتصادر كل أشيائك ، وتدفنك ضمن أسرارها وألغازها المحيرة ، طابور من التاكسيات تم ارشادنا إليه ، أعجبتني دقة النظام ،الناس تتدفق كالسيول الهائجة ، عشرات الرحﻻت الهابطة لتوها من مختلف جهات العالم ، من رأس شريط السيارات الرابضة يركب القادم اﻷول ، والآتي بعده يركب السيارة التي تليه ، وهكذا تسير اﻷمور بشكل منضبط ومضبوط لدى الجميع ،وكأنهم بصموا وتعاهدوا في الحين على هذا اﻹجراء ، التاكسي ﻻ يسمح لها النظام بحمل أكثر من ثﻻثة أشخاص ، كنا ستة فكرنا قبل انبهارنا بهذه الدقة الرائعة ، ان نركب جميعا مع حقائبنا في سيارة واحدة ،
وزعنا انغسنا على سيارتين ، كنت في المقعد اﻷمامي من اﻻولى منهن ،على أن تتبعنا الثانية ، ركب السائق بعد ان رفع المتاع على حوض السيارة العلوي ،أشعل المحرك وأضاء المصابيح واستعد لﻻنطﻻق ، أدار إلي وجهه مبتسما ومرحبا مهنئا ايانا على الوصول والسﻻمة ، قبل ان يسألني عن الوجهة المقصودة ، بداية لم أهتد للرد على سؤاله ، وبين الخوف و اطمئنان غير مفهوم ، قلت نحن ضيوفك والمضيف ﻻ يسأل ضيفه عن قصده ، قال بلباقة متحضرة مرحبا بكم في بيتي ، و بعد قليل من المزاح المهذب ، فارقتنا كل الهواجس و المخاوف ، طلبنا إليه ارشادنا لفندق ﻻئق وبسعر معقول ،
أخبرناه عن طول إقامتنا وعن المرافق التي سنتدرب فيها ، اقترح ايجار شقة مفروشة في حي المنار ، اتصل بأحد السماسرة وأيقظه طلب منه المساعدة في الحال ﻹيواء ضيوفه ، تواعدا قرب ” عليسة ”
انطلقت السيارة مسرعة تمخر الضباب والظﻻم ، ومع تقدم سيرها تتبخر المخاوف ، و تتكشف مﻻمح عروس تاجها مرصع بالذهب والجواهر ، كلها إنس وزينة ، تأتلق و تضيئ من خلف الغيوم ، تفتح ذراعيها ، وتدعوك لحضن دافئ و معطر ،
توقفت التاكسي وخرج شاب مليئ بالحياة ، يحمل من المفاتيح ما تنوء به العصبة اولوا القوة ، دخلنا شقة بعمارة نظيفة ، واتفقنا على الثمن اليومي ، متفهمين أن التعب واﻻستعجال وتأخر الوقت اسباب معقولة لإنتهاز اهل السوق ،
في الصباح تذكرت أن حقيبة جيبي اودعتها الثﻻثة آﻻف دوﻻر ، دفنت في طياتها كل زادي في هذه الغربة التي ستمتد لشهرين ، آخر عهدي بها عندما أخرجتها في المطار ﻷصرف الى الدينار المائتين الزائدة على اﻵﻻف ، واستعدادا لتسديد النفقات اﻷولى جعلت الدينار في جيبي ، لم أشأ اخبار زمﻻئي ، ﻷن اﻷمر قد ﻻيفهم على حقيقته ،وسأتدبر أمري على كل حال ، فكرت في سبل البحث وطرقه ،لكن ظل اليأس من العثور عليها يستبطنني ، ربما وجدها احدهم في المطار فدسها خفية في جيبه وضاعت هويتها ،
بطاقة تعريفي الشخصية وبطاقتي المهنية مع اوراق خاصة أخرى كانت ترقد في الحقيبة ، انتهت استعداداتنا للذهاب الى العمل ، في اول يوم من أيام التدريب ، كنت اﻷول منهم خروجا من العمارة ، عند المدخل بادرني شخص مناديا إياي بإسمي حياني ،قرأ في وجهي غرابتي ودهشتي من الحال ، قال انا مضيفك وكنت هنا انتظرك بامانة نسيتها البارحة في السيارة ، أخرج الحقيبة من جيبه ومدها لي ، شكرته وحاولت تشجيع سلوكه و ظل رافضا بشكل صارم ، وقال لي يا اخي حياتنا كأمة تقوم أساسا على السياحة والزوار ، وﻻ بد من خدمتهم واﻷمانة معهم حتى يرجعوا ثانية وثالثة ، أنا أعمل
لتونس .
امضينا اياما في الشقة و رغبنا في تغيير اﻹقامة الى ناحية اخرى ، وجدنا بعد البحث والتقصي ان السعر الذي اجرنا به فجر قدومنا في ذلك الوقت العصي كان مناسبا ، وأن اتهامنا المتعجل ﻷباطرة الليل لم يكن صائبا .
أيام تونس ولياليها كانت مشعة ومضيئة وفي غاية المتعة والسعادة ، الحمامات واصفاقص ، وقرطاج وسيدي بوسعيد ، الأرض والناس ، كنت ساعتها أتجول على الشاطئ في أوقات متأخرة من الليل ، أستمتع بالجمال وروائح الورود ، الموسيقى الهادئة المنبعثة من أعمدة الضوء تنقلني الى عالم من الحلم و الخيال، أشعر بأنني أسير فوق بساط أحمر وسط سحابة من العطر و البخور ، وأن ذراع الحبيبة تحت إبطي .
على شارع بورقيبة تنتشر المقاهي واﻷسواق ، والحوانيت المزينة بالزجاج واللوحات واﻷلوان ،الحشود البشرية يغص بها المكان ، كأنه زحف مغولي أو هو الحشر يوم الدين ، الجميع متواضعون على عدم المضايقة ، وحينما يلمسك احدهم – مكرها – من شدة اﻹكتظاظ يبالغ في اﻷسف و اﻹعتذار،
كنت جالسا ذات مساء في مقهى قبالة فندق افريقيا ، امواج من الناس تمر من أمامي ، شاهدته حين ادخل يده في جيب أحدهم ، فقفز إليه شخص بلباس مدني ، وأمسك اليد التي تسللت الى الجيب وقيدها مع اﻷخرى ، في لمح بصر مر به اثنان فسلمه اياهما ، وبقي هو يفحص الوجوه ويراقب ، منتصبا في مكانه لمواصلة المهمة ، وكأن شيئا لم يحدث في ذلك المكان ، جاهزية عالية لرجال اﻷمن ، وحضور مكثف ، يقول القهوجي بين كل ثﻻثة من المارين رجل أمن بزيه المدني ، ﻻ تميزه وﻻ تتعرف عليه إﻻ حين يستدعيه الواجب للتدخل ، و هو أمر نادر الحصول أصﻻ لقلة الانحراف فينا .
عﻻقتي بتونس تعززت بعد ذلك ، بحكم الصداقات الكثيرة مع مستويات عديدة من الطيفين الرسمي واﻷكاديمي ، والوجد الحارق الذي يسكنني لهذا البلد الطافح بالحيوية والجمال ، وباتت تونس محطة دائمة في اسفاري قاصدا او عائدا من مقر عملي الجديد ، وكم تمنيت لها مزيدا من التألق واﻹزدهار ، وأن تتمكن من دحر اﻹحن و الفساد لتدخل باحة الرقي هانئة ومتﻷﻷة .
أثناء الثورة وايام احتدامها كنت موجودا بتونس بداية شهر يناير 2011 ، استبشرت خيرا في البداية ﻷن بلدا عربيا يخطوا أمامي في تجربة حضارية راقية ، واستبسال مثير نحو الحرية وترشيد الحكامة والديموقراطية ، وسيمكنه ذلك حتما من اللحاق باﻷمم المتقدمة ، فأمتنا تزخر بمقدرات بشرية و طبيعية هائلة ، لكن اﻹستبشار ضاع وتﻻشى لما شاهدت المخاض والتحول ، اﻻمن بلباسه الرسمي ورشاشاته على شارع بوركيبة قرب فندق افريقيا يستقيل علنا من مهمته ويكتفي بالتفرج على اﻻعتداءات المشهودة على الممتلكات و الحوانيت ، تذكرت حادثة الشرطي المدسوس وحمايته لجيوب
المارة عند ما يستغفلهم لص خفي .
وفي شهر يونيو 2011 نزلت بقرطاج في السحر ، لم أعد مترددا وﻻ وجﻻ ، ﻻ حاجة لﻻستعﻻم عن أي شيئ ، فالبلد اعرفه جيدا ، خرجت الى مقر السيارات فإذا بالصراخ والهدير ، اعتداء وتوعد ، أرتال السيارات تتزاحم وتغلق الطريق، السائقون يتشاجرون على الركاب ،مزامير المركبات تغتال هدوء الليل ، وتمزق السكينة ، توقفت أتملى الوضع والوجوه ، أخذ احدهم بذراعي ، وقفز آخر الى حقيبتي وشدني ثالث من الذراع اﻵخر ، أيقنت أنني في غابة ، وأن الذئاب تمكنت مني ، حاولت التراجع عن أخذ سيارة صرخت في وجوههم قائﻻ بانني سأسير على قدمي أو أرجع الى المطار ، تملكني الدوار
ورغبت في التقيئ مرات ﻷن النتن ينبعث من أفواه القوم التي يعلوا صراخها والمصوبة في وجهي ،مرددين عبارات من قبيل تونس الثورة و سخافات طائشة و عبثا آخر ، كانت اعداد المسافرين طفيفة بفعل التغيرات الحتصلة في البلد ، وكلما ﻻح وافد من المطار هرع اليه بعض هؤﻻء المجانين ، قررت ان ﻻ اركب مع احد من هؤﻻء الثﻻثة ، حاولت التخلص منهم بكل الحيل ، ولما أيقنوا من جديتي و أنني لم أعد راغبا في دخول المدينة لقرب موعد مواصلة رحلتي ، تنصلوا مني ، بدأوا في شتمي وسبي ،
دخلت المدينة بعد جهد جهيد ، في مساء اليوم الموالي جلست في قهوة على شارع بوركيبة ، الدبابات تحكم الشارع ،مرصوصة داخل سياج يحيط بالمساحة الفاصلة بين اﻻتجاهين ، الواجهات الزجاجية لبعض الحوانيت مكسرة ،وأغلبها مسدود ، واﻻوساخ تنتشر ، كأن المكان حديث عهد بحرب ﻻتزال أنواء تجددها تبرق في السماء ،أو أنه مجرد آثار لحضارة اندرست منذو زمن ، جلست في القهوة أتأمل ، أقرأ الرعب على صفحات الوجوه القليلة ، فإذا بقطيع من الناس يتجه صوبنا هربنا دخلنا في القهوة وسدت ابوابها في وجه القادمين ، سألتهم عن اﻻمر ، فقالوا هذه مظاهرة لمنسوبي الصحة
يطالبون الثورة بتحسين ظروفهم .
بعد ان تخطت سحابة القوم فتحت عنا اﻻبواب وخرجنا للمقاعد المنصوبة امام القهوة ،وجدنا آثارملحمة كبرى ، وكيف قام المتظاهرون بتكسير مقاعد هذا المسكين بوحشية وبهيمية.
في طريقي عائدا الى الغندق ، وعلى شارع محمد الخامس قرب أبي نواس خطف لص على دراجة هوائية هاتفي اثناء محادثتي مع اهلي ، سجلت في ذاكرتي حظرا على المرور بتونس أمضيت ذلك العهد ووقعته ، ورغم ولعي بتلك اﻷرض ، وصداقاتي مع ناس من أهلها ، فإنني لم أدخل تونس بعد ذلك التاريخ ، وأتمنى لها ان تعود كما كانت مزهرية المغرب العربي ، وأن تنطفئ الحرائق التي أكلت اﻷخضر واليابس ، وتتوقف الزوابع التي حملت الى جوفها اﻷوساخ واﻷمراض ، محال ان تعود تونس الى زرقتها وصفائها ، قبل أن تتصالح مع ذاتها وتعود الى هويتها اﻻصيلة ، امة متحضرة تسري في دمائها قيم
العرب واﻻسﻻم الحق،
وستظل تونس اذا ما أحسنت إدارة اﻷزمة قادرة على اﻻنبعاث من ركامها وحطام السنين ، ستورق اﻷشجار ، و تؤوب الى عز اﻷمن والتنمية ، وستتطهر من ادران ما قبل الثورة ، و تنقي نفسها من كير ما بعدها ، فاﻷمم ﻻ تبنى بالشعارات والدعايات الكاذبة ، و ما اكبر الخسارة حين يشبع اﻻنسان اﻻرض من لحمه ويسقيها بدمه مستنبتا السنابل والكروم ، ومتطلعا للورد والزيتون خاطبا التغيير نحو اﻷفضل ، فتموت اﻷرض التي فني اﻹنسان في سبيلها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى