Uncategorizedمقالات

هل يخدم تحديد المأموريات الديمقراطية في موريتانيا؟ / ابوبكر الصديق ولد المنان

إن موريتانيا تقف اليوم عند منعطف حاسم، تواجه فيه تحديات استراتيجية كبرى على المدى البعيد. فمن جهة، يفرض الوضع الأمني الإقليمي، بما يحمله من تهديدات الإرهاب وعدم الاستقرار في منطقة الساحل، ومن شبكات التهريب العابرة للحدود، يقظة دائمة وحوكمة قوية. ومن جهة أخرى، تبرز الحاجة الملحة إلى إطلاق نهضة اقتصادية من خلال استغلال الثروات الطبيعية من غاز ومعادن وثروة بحرية، بالتوازي مع تحديث البنى التحتية، وتطوير التعليم، والنهوض بالقطاع الصحي.

وفي قلب هذه التحديات، تظل الوحدة الوطنية والاستقرار المؤسسي ركيزتين أساسيتين. غير أن حصر المأموريات الرئاسية في ولايتين فقط قد يطرح إشكالية تتعلق بقدرة الدولة على ضمان الاستمرارية في السياسات العامة، وعلى إنجاز المشاريع الكبرى التي تحتاج إلى رؤية استراتيجية وطول نفس وإرادة ثابتة واستمرارية في العمل السياسي.

لقد علّمنا تاريخنا الوطني أن بناء الدول لا يتم بين عشية وضحاها. فالرئيس المؤسس المختار ولد داداه، وخلال ثمانية عشر عاماً من القيادة، وضع اللبنات الأولى للدولة الموريتانية الحديثة. أرسى الأوقية رمز السيادة الوطنية، واستعاد السيطرة على الموارد الاستراتيجية من خلال تأميم ميفرما، وأسّس لركائز الإدارة والتعليم. مثل هذا البناء التاريخي ما كان ليتحقق في عقد واحد فقط.

وإذا تجاوزنا حدودنا الوطنية، نجد أن التجارب الدولية تثبت أن الاستمرارية السياسية ليست نقيضاً للديمقراطية. ففي ألمانيا حكمت أنجيلا ميركل ستة عشر عاماً، مثّلت خلالها رمزاً للاستقرار والازدهار. وفي بريطانيا، حيث لا يوجد سقف زمني للمأموريات، قادت مارغريت تاتشر البلاد لأحد عشر عاماً، أحدثت خلالها تحولات عميقة. أما في الملكيات البرلمانية مثل إسبانيا وهولندا وبلجيكا، فإن بقاء رؤساء الحكومات مرهون فقط بثقة البرلمان. أوروبا كلها تقدم البرهان على أن طول البقاء في السلطة قد يقترن بالديمقراطية والتقدم.

وفي العالم العربي، شكّلت استمرارية القيادة عاملاً حاسماً في ترسيخ الاستقرار ودفع عجلة التنمية. فالمغرب رسّخ استقراره التاريخي عبر الملكية وأجرى إصلاحات متدرجة. وفي مصر، جاءت التمديدات للرئيس عبد الفتاح السيسي في سياق تثبيت الأمن وإنعاش الاقتصاد. أما في الجزائر، فقد واكب عبد العزيز بوتفليقة أربع مأموريات قادت البلاد إلى الخروج من العشرية السوداء. كما أن التجربة الخليجية في الإمارات وقطر تثبت أن الاستمرارية السياسية كانت وراء النهضة المتسارعة والريادة الدولية.

لقد برهنت التجربة الإيفوارية بجلاء على أن تكييف نظام المأموريات مع السياق الوطني قد يكون بوابةً للاستقرار والازدهار. فإلغاء سقف المأموريات الرئاسية في كوت ديفوار أتاح للقيادة السياسية مواصلة تنفيذ المشاريع الكبرى ومراكمة الإنجازات، وهو ما انعكس في نمو اقتصادي متسارع واستقرار سياسي نسبي جعل البلاد وجهة استثمارية واعدة في غرب إفريقيا. وعلى النقيض من ذلك، شهدت دول الجوار مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر سلسلة من التغييرات غير الدستورية، وكان من بين أسبابها الرئيسية الجمود السياسي الناجم عن حصر المأموريات، مما حال دون استمرارية المشاريع وأدى إلى هشاشة مؤسسات الدولة وتراجع التنمية. هذه المقارنة الصارخة توضح أن التمسك الأعمى بالقيود الشكلية قد يفتح الباب أمام الفوضى بدل أن يحمي الديمقراطية.

أما التجربة السنغالية، فهي بدورها تعكس مخاطر التقيّد الصارم بسقف المأموريات الرئاسية. فقد شهدت البلاد خلال المأمورية الثانية لكل من الرئيس عبد الله واد والرئيس ماكي صال أحداثاً دامية، سقط فيها ضحايا خلال الاحتجاجات التي فجّرها الجدل حول مسألة الترشح وحدود المأموريات، مما أدخل البلاد في توترات سياسية وأزمات اجتماعية متكررة. وعلى العكس من ذلك، تميز عهد الرئيسين ليوبولد سيدار سنغور وعبدو ديوف بقدر أكبر من الانسجام السياسي والاستقرار، حيث لم تكن مسألة المأموريات تشكّل عائقاً أمام استمرارية الدولة ولا تهديداً لوحدة المجتمع. إن المقارنة بين هاتين المرحلتين تبرز بوضوح أن التركيز المفرط على الشكل القانوني لتحديد المأموريات قد يزرع بذور الصراع بدل أن يكون ضمانة للديمقراطية والاستقرار.
وإذا نظرنا أبعد من ذلك، سنجد أمثلة أكثر إقناعاً:
سنغافورة بقيادة لي كوان يو، الذي حوّل جزيرة بلا موارد إلى قوة اقتصادية عالمية في أكثر من ثلاثة عقود من الحكم.
ماليزيا مع مهاتير محمد الذي قاد نهضة صناعية باهرة في اثنين وعشرين عاماً. رواندا مع بول كاغامي الذي حوّلها منذ عام 2000 إلى قصة نجاح إفريقية في الاستقرار والنمو.
وحتى الصين، حين ألغت تحديد المأموريات للرئيس شي جين بينغ، إنما فعلت ذلك لترسيخ استراتيجيتها بعيدة المدى.
كما أن التجربة الفرنسية تقدم مثالاً آخر على ما قد يحمله تقييد المأموريات من عدم استقرار سياسي. فمنذ 2007، تاريخ إقرار تحديد المأموريات الرئاسية بولايتين فقط، لم يتمكن أي رئيس من إنهاء مأموريته الثانية بنجاح سياسي. فقد هُزم نيكولا ساركوزي في محاولته للتجديد، واختار فرانسوا هولاند عدم الترشح بسبب تراجع شعبيته الحاد، أما إيمانويل ماكرون فيواجه اليوم وضعاً سياسياً مأزوماً، حيث شهدت فرنسا سقوط ثلاث حكومات في غضون أشهر قليلة.

هذه الوقائع تبرهن أن التحديد القانوني الجامد لا يحصّن الديمقراطية، بل قد يُغرق النظام السياسي في أزمات متلاحقة تعيق الاستقرار وتعرقل مسار الإصلاحات.
إن هذه التجارب مجتمعة تؤكد أن الاستمرارية السياسية، حين تقوم على رؤية واضحة وقيادة رشيدة، تشكل رافعة أساسية للاستقرار والتنمية والتحولات الكبرى. وعليه، فإن قاعدة المأموريتين لا ينبغي أن تُنظر إليها كقانون مطلق أو مبدأ كوني، بل كخيار قابل للنقاش وفق الخصوصيات الوطنية.

إن التجربة الموريتانية تثبت أن بناء المؤسسات يحتاج إلى وقت أطول مما تسمح به ولايتان فقط. والتجارب الأوروبية تبرهن أن غياب التحديد لا يضر بالديمقراطية، فيما تشهد التجارب العربية والدولية على أن الاستمرارية قد تكون شرطاً ضرورياً للتنمية والاستقرار.
وإذا عدنا إلى واقعنا الوطني، سنجد أن مسألة تحديد المأموريات ليست جزءاً من تقاليدنا السياسية في معظم المؤسسات. فلا يوجد أي سقف زمني لمأموريات النواب في البرلمان، ولا لأعضاء المجالس البلدية أو الجهوية، ولا حتى لممثلي الغرف المهنية. بل إن معيار الاستمرارية في هذه المواقع الانتخابية ظل دوماً مرتبطاً بثقة الشعب وتجديده للشرعية عبر صناديق الاقتراع. فلماذا يُفرَض على المنصب الأعلى في الدولة ما لم يُفرَض على غيره، وهو الأقدر على تحقيق الاستقرار وضمان تنفيذ المشاريع الوطنية الكبرى؟ إن الانسجام بين مختلف المستويات المؤسسية يقتضي إعادة النظر في هذا التمييز، حتى يكون معيار البقاء في المسؤولية واحداً: إرادة الناخبين.
وفي نهاية المطاف، يبقى الشعب الموريتاني، السيد في قراره، هو الحكم الفصل. فهو من يملك الحق في تجديد الثقة برئيسه إذا وجد أن مساره يلبي طموحاته ويخدم مصلحة الوطن.

من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى فتح نقاش وطني صريح ومسؤول، حول كيفية تكييف نظام تحديد المأموريات مع خصوصيات موريتانيا، بما يضمن الاستمرارية، ويحافظ على السيادة، ويجعل الإرادة الشعبية هي المرجع الأول والأخير.

ابوبكر الصديق ولد المنان

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى