مقالات

العلامة محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني الحوضي

ينحدر العلامة محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني الحوضي وأحيانا يقال الولاتي من أسرتين علميتين شهيرتين ببلاد شنقيط، فأبوه أحمد مولود بن خي بن محمد عبد الدائم المحظري الجكني، وأمه خدي بنت الطالب محمد بن عبد المالك الداودي الولاتي.

ولد حوالي سنة 1262هـ بمنطقة أحياء الوسرة بالحوض، وهي أحياء جكنية من بطون مختلفة خرجت من تينيگي (منتصف القرن الحادي عشر للهجرة) إبان اندلاع الحرب فيها، واستقرت بالحوض، وتواشجت فيما بينها وتعاضدت فعرفت بالوسرة التي تعني التشابك والتعاضد. واختار له أبواه اسم جده من جهة الأم القطب الكبير العلامة الصالح محمد الاغظف بن أحمد (احماه الله) الداودي (ت 1217هـ) مؤسس الطريقة الغظفية بالبلاد.

أخذ القرآن ومبادئ العلوم في بيته وبين ذويه، ثم انتقل إلى مدينة ولاته التي كانت يومها في أوج عطائها العلمي، فدرس على خاله القاضي صاحب النوازل أحمد بن عبد المالك الداودي الولاتي (ت 1303هـ) الفقه، وأخذ عن معاصره العلامة محمد يحي بن محمد المختار الولاتي الذي أجازه في علوم الحديث والأصول والعربية وغيرها. كما نهل من معين مكتبات ولاته، وارتوى من عطاء شيوخها. ثم تاقت نفسه إلى الرحلة فرحل إلى كل من تنبكتو وتيشيت.

وبعد طلب حافل للعلم عاد إلى أرضه فتصدر للتدريس والإفتاء، ولم يلبث أن ذاع صيته هناك، لاسيما في النحو والآداب وعلوم اللغة، حيث يذكر العلامة الطالب أحمد بن ديده الجماني أن الشيخ محمد الاغظف هو أول من اعتنى بتدريس احمرار ابن بونه على ألفية ابن مالك في النحو، ونشره في بوادي الحوض، وأن معظم من اشتهر بتدريسه في تلك المنطقة كان من تلامذته مباشرة أو بواسطة. وكانت محظرته عامرة في العشرية الأخيرة من القرن الثالث عشر، ومن أبرز من أخذ عنه فيها العلامة محمد الخضر بن مايابى الجكني الذي اتصل به سنة 1298هـ فأجازه في قراءة نافع، وأخذ عنه عددا من المتون الفقهية، ومحمد الأمين بن إبراهيم، ومحمد المختار بن اكاي، وأحمد بن محمد آبه الجكنيون، والشيخ سيدي محمد بن إلياس الجماني وغيرهم.

ورحل العلامة محمد الاغظف إلى المشرق فحج ورجع إلى بلاده، ثم حج ثانية، وثالثة. ودرس في الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وكانت له مطارحات علمية وأدبية بالمشرق ولقاءات مع العلماء هناك.

وفي طريق عودته الثالثة من الحج التقى في المغرب بالسلطان الحسن بن محمد سنة 1311هـ/ فأعجب بعلمه، ورغب إليه في تعليم أهل بيته من الأمراء وفي مقدمتهم ابنه الأمير عبد الحفيظ الذي لازمه ونهل من علمه، وأعجب به أي إعجاب، وتبوأ محمد الاغظف في تلك الفترة مكانة مكينة بين علماء المغرب أهلته لحمل لواء الفتوى القاضية بخلع المولى عبد العزيز بن الحسن ومبايعة أخيه المولى عبد الحفيظ الذي هو تلميذه سنة 1320هـ، وعينه المولى عبد الحفيظ بعد توليه مفتيا للديار المغربية، وأصبح بذلك بيت الشيخ محمد الاغظف مركزا علميا مقصودا يؤمه العلماء وطلبة العلم من مختلف مناطق المغرب، وملاذا للوافدين من علماء شنقيط ومشاهيرها.

وكانت ميزات العلامة محمد الاغظف التي لفتت انتباه من كتبوا عنه من أعلام المغرب فقهه الواسع، وتبحره في اللغة والأدب والشعر، ثم عبادته الدائبة، وورعه الفائق. فهذا السوسي في كتابه “المعسول” يسرد في معرض حديثه عن الشيخ ماء العينين القلقمي الشنقيطي قصة تشهد له بالورع التام والإقبال الدائم على الله، حيث يقول: “وحدثني الباشا منُّو أيضا قال رجع الشيخ ماء العينين إلى مراكش حين كان مولاي عبد الحفيظ خليفة أخيه هناك، فوجدنا هبت علينا نسمات من الحياة الجديدة العصرية, وقد تزلزل اعتقادنا فيه (…) قال الباشا: ومن الشنگيطيين عالم ورع إلى الغاية لم أعهده يرسل لسانه في أحد يسمى محمد الأغظف، وهو من الذين يصاحبهم الخليفة مولاي عبد الحفيظ ويؤلفون له ويذاكرهم في مجالسه العلمية, وحين أكثر الناس في انتقاد الشيخ ماء العينين, أقبلت أسائله عن أحواله, فأشار إلي أن أشتغل بذات نفسي” (المعسول/ 4/ 84).

وهذا القاضي العباس بن إبراهيم السملالي صاحب “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام” يصفه بأنه “الفقيه البركة الناسك، الشيخ العلامة الأورع المشارك، الذي لا ينفك عن ذكر الله، المعود لسانه دائما كلمة لا إله إلا الله، شيخ الأخيار والأمراء والكبار والعرفاء” (الإعلام 7/ 218).

أما العاهل المغربي المولى عبد الحفيظ فتحدث عن شيخه بعاطفة جياشة في كتابه العذب السلسبيل في حل ألفاظ خليل واصفا إياه بأنه شيخه “الولي الصالح والقطب الواضح، ذو التآليف العديدة، والفوائد المفيدة، والقدم الراسخة في معرفة الله عز وجل سيدي محمد الاغظف، حج وهاجر واعتكف، وقام من آناء الليل نصفه أو كله، رجل من أهل الجنة على وجه الأرض، لا غل ولا حقد ولا حسد ولا غيبة، إذا زنته بقول الله تعالى <<وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما>> كان ذلك له مقاما” (العذب السلسبيل/ 3).

وكان مع علمه معدودا في الشعراء، يذكر المؤرخ المغربي عبد الوهاب بن منصور الذي راجع كتاب الإعلام وقدمه للنشر أن السملالي ترك قدر ثلاث صفحات بيضاء في ترجمته ليضمنها نماذج من شعره لكن ذلك لم يقع(الإعلام 7/ 218).

ونال محمد الاغظف الحظوة التي لا مزيد عليها لدى تلميذه ملك المغرب المولى عبد الحفيظ وأعيان الدولة المغربية. فكان عونا للشناقطة الذين يفدون إلى تلك الديار وبابهم الذي يدلفون منه إلى السلطان، وفد عليه أبناء مايابى : محمد العاقب ومحمد حبيب الله ومحمد الخضر رفقة ابن عمهم البيضاوي إلى المغرب، فقدمهم محمد الاغظف إلى السلطان وحضرته فقربهم السلطان وأكرم وفادتهم. وانضم محمد الخضر إلى علماء القصر مع شيخه محمد الاغظف كما أشار إليه السوسي في المعسول، قبل أن يهاجر إلى المشرق. أما البيضاوي فلازم الشيخ محمد الاغظف إلى أن تبوأ مكانة خاصة عند السلطان الذي قربه وآل به الأمر إلى تعيينه قاضيا ثم باشا لتاردانت فقام بباشويتها أحسن قيام وكان أديبا شاعرا مفلقا.

وحبس المولى عبد الحفيظ -كما قال القاضي السملالي في كتابه الإعلام- على شيخه “محمد الاغظف وعلى ولده محمد عبد الله وعقبهما ما تناسلوا وامتدت فروعها جميع البياض المسمى بأرض سيدي أحمد الرحالي بتسلطانت وبوره وجميع أربع فرديات عن كل عشرة أيام من ساقية تسلطانت حبسا مؤبدا وتضمن الظهير الحفيظي تحديد الأرض المذكورة وبورها وهي نحو ألفي هكتار”(الإعلام 7/ 218).

لكن الفرنسيين استرجعوا هذه الأرض بعد تخلى المولى عبد الحفيظ عن الحكم، فالشيخ محمد الاغظف كان من ألد أعدائهم ومعارضي وجودهم بالمغرب، وكان يحرض على مقاومتهم، ويرفض الاعتراف بسلطة فرنسا على المغرب بعد نفي السلطان عبد الحفيظ، مما جعل الجنرال الفرنسي اليوتى يأمر بوضعه تحت الإقامة الجبرية بمراكش، إلى أن توفي، وكانت وفاته حدثا مشهودا في المغرب، ودفن بروضة الإمام السهيلي، أحد السبعة رجال. قال السملالي في الإعلام: “توفي بمراكش في شوال عام 1337هـ ودفن بروضة الإمام السهيلي، وقام أهل المدينة بتجهيزه قياما عجيبا، واجتمع عليه خلق كثير، وجم غفير، كبراء وأجلاء وغيرهم.” (الإعلام 7/ 219) ورثاه خلق كثير في مقدمته تلميذه وابن عمه الباشا البيضاوي باشا تاردانت.

أما مؤلفاته التي أضاعت الأوضاع السياسية المضطربة أغلبها فاشتهر منها شرحه المحكم لمنظومة “السبك العجيب لمعاني حروف مغني اللبيب” التي ألفها تلميذه المولى عبد الحفيظ، وطبع بمصر في عهده، ووضع عليه علي بن مبارك الروداني حاشية أسماها “فتح الصمد على شرح محمد الاغظف بن أحمد” وصف في مقدمتها محمد الأغظف بـ “الفقيه العلامة، البحر الفهامة، المشارك في جميع العلوم المنثور منها والمنظوم”..

ولأن العلامة محمد الأغظف كان يدعى أحيانا بالولاتي فقد تسبب ذلك في نسبة العديد من كتب التراجم وفهارس المكتبات هذا الشرح للعلامة محمد يحيى الولاتي خطأ، واعتمد هذه النسبة عدد من مترجمي الولاتي، وموثقي المكتبات الالكترونية التي تحتوي على نسخ من هذا الشرح. وربما كان السبب في هذا الخلط هو كون محمد يحيى الولاتي كان قد ألف في صغره نظما لمعاني حروف مغني اللبيب. والشرح لمحمد الاغظف كما نص على اسمه في العنوان محشيه الروداني وذكره غير واحد من العلماء. وهذا الكتاب هو أول مؤلف شنقيطي يعرف طريقه إلى الطباعة حيث طبع 1325هـ، يليه في ذلك الوسيط في تراجم أدباء شنقيط الذي طبع سنة 1329هـ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى