مقالات

إِضَاءَةٌ عَلَي المَجَالِسِ الجَهَوِيًةِ المُقتَرَحَةِ

اتفقت الأغلبية الرئاسية و طيف واسع من المعارضة الديمقراطية إثر حوار وطني “شامل” و “شبه جامع” علي “محفظة مقترحات إصلاحات دستورية وسياسية و إدارية” سيعرض ما يتعلق منها بالإصلاحات الدستورية علي استفتاء شعبي؛ و لعل مقترح إنشاء المجالس الجهوية من أبرز ما سيتم سؤال و استفتاء الشعب حوله و أحوجه إلي المقاربة و التقريب للرأي العام.
و محاولةً للإسهام في إنارة الرأي العام الوطني حول موضوع المجالس الجهوية أو “الجهاتية””La Régionalisation”سأبين بشكل مختصر ثلاث مبررات لجدوائية إرساء المجالس الجهوية ببلادنا قبل أن أنبه إلي ثلاث مَطَبًاتٍ تتعلق بنوع و تسارع المجالس الجهوية يتعين علي من سيعهد له بصياغة القانون المنظم للمجالس الجهوية اتخاذ كامل الحيطة للتعاطي الإيجابي معها.
فبخصوص جدوائية إرساء المجالس الجهوية في بلادنا فيمكن استنتاج ذلك من خلال مساءلة الوجاهة السياسية و المردودية الإدارية و الضرورة التنموية.
أولا: الوجاهة السياسية:تعتبر المجالس الجهوية أداة لترسيخ و تجذير الديمقراطية و تدريب و تكوين المواطنين علي تقنيات و أدبيات و تقاليد العمل الديمقراطي و كذا توسيع نطاق الديمقراطية المحلية إذ هي الجيل الثاني من اللامركزية بعد المجالس البلدية التي أنشئت في بلادنا منذ ثلاثين عاما و إذا كان من المتعارف عليه عالميا أن “البلدية هي المدرسة الأولي للديمقراطية” فإن المجالس الجهوية هي ” المدرسة الثانية ( المستوي الثانوي) للديمقراطية.”
و يعتقد بعض المراقبين أن خطوة إرساء المجالس الجهوية جاءت متأخرة شيئا ما خصوصا إذا ما علمنا أن تلك المجالس الجهوية موجودة في دول المنطقة منذ عشرين سنة تزيد أو تنقص قليلا أو كثيرا حسب التطور المؤسسي و الديمقراطي لتلك الدول( المغرب،تونس، الجزائر، السنغال و مالي،…)؛
ثانيا: المردودية الإدارية: من المعلوم أنه سيكون من اختصاص المجالس الجهوية تسيير المرافق العمومية الكبري كالثانويات و المعاهد المتوسطة و المستشفيات… و هي مهام مَنُوطَةٌ حتي الآن بالسلطات الإدارية كما سيعهد للمجالس الجهوية بإعداد و تنفيذ الميزانيات الجهوية و الخطط التنموية الجهوية.
و لقد أكدت تجارب الأمم أن تسيير المرافق الخدمية ذات الصلة الماسة بحياة السكان يكون دائما أدق تصورا و أحسن جودة و أقل تكلفة كلما تم إسناده إلي أجهزة سياسية و إدارية قريبة من السكان و منتخبة من طرفهم فأهل مكة دائما أدري بِشِعَابِهَا و أرحم بِشَعْبِهَا!!؛
ثالثا: الضرورة التنموية:يمثل التفاوت التنموي المناطقي أحد المخاطر التي تهدد وحدة و انسجام البلد و هو مما يستدعي استعجالا تصحيح الاختلالات و التباينات التنموية المناطقية.
و حيث أن الدولة المركزية الحديثة لم توفق خلال الستين سنة الماضية في تحقيق التوازن التنموي المناطقي فإن المجالس الجهوية قد تكون حلا أنسب من أجل تحقيق التنمية المناطقية العادلة و ردم أو تخفيف الهوة التنموية الحادة أحيانا بين الجهات و المناطق.
و مما سبق يتضح أن الوجاهة السياسية لإنشاء المجالس الجهوية مؤكدة و المردودية الإدارية مجربة و الضرورة التنموية مثبتة و هو ما يؤيد فكرة اقتراح إنشاء المجالس الجهوية و ترسيخ الديمقراطية المحلية من خلال شَدِ عضد الجيل الأول من اللامركزية ( البلدية) بالجيل الثاني من اللامركزية المتمثل في “نظام الجهاتية”.
لكنه في حالة إجازة فكرة إنشاء المجالس الجهوية عبر الاستفتاء فإن الجهة التي قد تكلف بصياغة مشروع القانون الذي سينظم المجالس الجهوية مطالبة بشديد الحذر واتباع طريقة “المَشْيِ عَلَي البَيْضِ” أو في “حقول الألغام” ابتغاء عدم الوقوع في خطيئة التقليد المؤسسي الأعمي و ذلك عبر اختيار نوع و “جيل ” من النظام الجهاتي يناسب الخصوصيات الوطنية و يتفادي المَطَبًاتِ الثلاثة التالية:-
1-الجهاتية المتقدمة أو شبه الفيدرالية: لعل من أوكد ما يجب الانتباه إليه هو ضرورة التدرج في اختيار نوع و تسارع النظام الجهاتي الذي سنختاره وذلك أسوة بفرنسا و المغرب اللتين لم تنهجا الجهاتية المتقدمة”La Régionalisation avancée “. إلا بعد تجريب أنماط الجهاتية الأخري، ذلك أن الجهاتية المتقدمة هي”نوع من شبه الفيدرالية”” Semi Fédéralisme” من المتواتر أنه لا يناسب بلدا كبلدنا لا زال ضعيف “الثقافة الدًوْلَتِيًةِ” التراكمية، “غير طويل الباع” في الاستقرار السياسي؛
2-الأخطبوطية و الإِحْتِرَابُ الإداري: و أقصد هنا ضرورة توضيح و وضع “عوازل قانونية و تنظيمية فولاذية” فاصلة تمنع التداخل و تسد منافَذَ التأويل بخصوص صلاحيات المجالس الجهوية و البلديات و السلطات الإدارية و المصالح اللامحورية” Les Services Déconcentrés”.
و من شأن توضيح الاختصاصات دَرْءُ مفسدتين أولاهما ضياع و تخبط المواطن في طرقات و شِعَاٍبٍ إدارية متداخلة و متشابهة يضل فيها القَطَا و ثانيهما انشغال العائلة المؤسسية الجهوية بالاحْتِرَابِ الإداري الداخلي من أجل كسب أكبر حجم من الصلاحيات و الاختصاصات!!
3-الإغراق و التمييع المؤسسي:و يتعلق الأمر بواجب عدم إغراق المشهد الجهوي بالعديد من المؤسسات الإدارية أو شبه الإدارية التي قد لا تكون ضرورية كلها لتأدية المأموريات و المهام و الخدمات الإدارية.
و خير مثال علي واجب الوقاية من الإغراق و التمييع المؤسسي هو ضرورة استثناء نواكشوط و نواذيبو من نظام الجهاتية إذ لا يُعقل أن تُنشأ بنواكشوط مجالس جهوية بالإضافة إلي المجموعات الحضرية و لا أن يُستحدث بنواذيبو مجلس جهوي بالإضافة إلي سلطة منطقة نواذيو الحرة و إذا لم يتم التبويب علي استثناء نواكشوط و نواذيبو من نظام الجهاتية المرتقب فقد يؤدي الأمر إلي “”مداخلات موسسية”( و الاصطلاح معار من ثقافة الكزرة) تُهلك الوقت و تُضيع الفرص.!!

هذا المقال بمثابة تحيين لمقال سابق

المختار ولد داهي ، سفير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى