مقالات

الممارسة السياسية و مطلب” التمهين” / المختار ولد داهي

لا زال الرأي العام الوطني يراقب بصبر أيوب وأمل يعقوب “مشهد الجيئة و الذهاب” الذي يمارسه السياسيون من قطبي الموالاة بتجانسها و المعارضة بتنوعها حول الحوار و “ممهداته” التي يخشي بعض المحللين أن تتحول من ممهدات إلي ” مهددات” تهدد حياة الحوار في المهد.

ذلك المشهد الذي استغرق وقتا طويلا ربما كان كافيا لإنجاز الحوار نفسه بل و الشروع في تنفيذ نتائجه. و رغم طغيان تحليل المشككين فلا زلت أعتقد أن الأيام القادمة قد تحمل لنا بشائر حول انطلاق حوار جدي، صادق، محدد الأهداف ،موطإ الآليات و محدود الزمن يخرج البلاد من حالة ” اللاتفاهم و الانكماش السياسي” إلي مستقبل ” الثقة المتبادلة و “الرخاءالديمقراطي”. . و لقد دعوت في مناسبات سابقة و نبهت إلي وجوب حصر مواضيع الحوار المنتظر حول الشأن السياسي ذي العلاقة “بالنظافة الفنية و المعنوية للانتخابات المقبلة” سواء كانت تلك الانتخابات في أوانها أو سابقة له و هي دعوة أفتأ أكررها و أعض عليها بالنواجذ و أعتبر أي زيادة عليها ” خروجا من الموضوع و شذوذا عن الاختصاص”.

و اليوم أفصل داخل موضوع الشأن السياسي ذي العلاقة بالمسار الانتخابي داعيا أطراف الحوار المرتقب إلي تسليط أضواء كاشفة علي الممارسة السياسية التي عانت و تعاني الكثير من الوهن و الشيطنة و التمييع مما أفقد السياسة و السياسيين شيئا غير قليل من ثقة الرأي العام.

فأضحت السياسة لدي فئات غير قليلة من عامة الناس و حتي طبقاتهم المتوسطة رديفة الكذب و الخداع و الخبث و المنفعية و حب العاجلة،… و أمسي السياسي صنو الكذاب و المنفعي و ” بائع المبادئ”…،و صار كثير من أشراف المثقفين و عتاة المناضلين التاريخيين يستنكف عن السياسة لا اقتناعا بما يقال عنها و إنما اتقاء للشبهات المثارة حولها.

ونظرا اثراء الموضوع تشخيصا و أسبابا و نتائج و حلولا فسأكتفي بالتعرض من باب “الرأي السريع” و “علي طريقة إيجاز الرسائل النصية القصيرة SMS ” لبعض أسباب هوان السياسة و الساسة علي الناس في أيامنا هذه قبل أن أختم بمقترحات من أجل “تطبيع العلاقة بين السياسة و الرأي العام” سبيلا إلي استعادة الساسة لألقهم و هيبتهم و نبلهم باعتبارهم “موقعين عن العالمين ” تماما كما أن “العلماء موقعون عن رب العالمين”.

و لعل من أبرز أسباب هوان السياسة و ” شيء من فساد اسمها في سوق الرأي العام” ما تعرضت له خلال فترات سياسية طويلة علي أيدي الأنظمة الاستثنائية و شبه الاستثنائية من الشيطنة و التمييع.

فبخصوص شيطنة السياسة فقد بدأت تطبيقاتها مع بداية السنوات الأولي للاستقلال حين اشتد العطاء النضالي للشباب الموريتاني من مختلف الخلفيات الفكرية، الشباب الملتزم العازم علي إحداث التغيير العاجل و العادل الضامن للرقي بالبلد علما و مدنية و نهضة اقتصادية.

حتي إذا استيقنت الأنظمة الاستثنائية ساعتها من خطر الممارسة السياسية الملتزمة علي “أمنها السياسي” ضربت بأيد من حديد و سلقت بألسنة حداد فملأت السجون و أفرغت المدارس من التلاميذ النابهين و أشاعت في الناس أن الالتزام السياسي هو معول هدم المشوار الدراسي.

كما أفرغت الأنظمة الاستثنائية ماكنة خبثها الاستخباراتي من أجل “تحريف المسار النضالي” لبعض رموز و مشاهير النضال السياسي من مختلف المشارب السياسية حتي يستقر في أذهان الناس أن السياسة صنو الخداع و الوصولية و بيع المبادئ بثمن بخس و لأول مشتري و لو كان عليها من الحاقدين .

أما في ما يتعلق بتمييع السياسة فقد عملت الأنظمة الاستثنائية علي تفكيك البنيات السياسية المنظمة و تشجيع عامة الناس علي الاشتغال بالسياسة من خلال اعتمادها سبيلا أوحد للولوج إلي أبسط الحقوق السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية فضلا عن الامتيازات الإدارية و المالية؛ مما أفقد السياسة قدرا غير يسير من طهارتها ونخبويتها.

فأضحت السياسة مهنة العامل والعاطل والمزارع والمنمي و الشاب الحدث و الشيخ الفاني و العابد الزاهد و المراهق الغافل و مهنة كل النساء علي اختلاف أعمارهن و أخلاقهن… وفي كثير من الأحيان أمست السياسة ملجأ للفاشلين ومهنة من لا مهنة له!!.

و حدثني بعض من أثق في نقله و عقله أنه كان حاضرا لإعداد استمارات قوائم لبعض الأشخاص الذين سيدعون لحدث جهوي كبير و تتكون الاستمارة من خانتي الاسم و المهنة و كان الموظف السامي المشرف علي التظاهرة يشير إلي معاونيه بتسجيل صفة ” وجيه سياسي” في خانة كل من لا يعلمون له مهنة.

و مع بداية المسلسل الديمقراطي المفروض بعد قمة “لابول” مطلع التسعينيات(لاحظ مصطلح المسلسل الذي يحيل عندنا إلى التمثيل المسرحي) ،عمد النظام الاستثنائي حينها و الذي كان لا يريد إلا إقامة ديمقراطية شكلية، عمد إلي إغراق المشهد السياسي بسيل من تراخيص الأحزاب السياسية مشجعا كل من هب و دب علي إنشاء حزب سياسي و ذلك من أجل تمييع التجربة الحزبية السياسية من خلال إظهار أن الأحزاب ليست اختصاصا حصريا للنخب صاحبة الكفاءة و لا المقامات صاحبة التجربة النضالية.

و لقد بلغت الأحزاب السياسية اليوم ما يربو علي المائة لا تكاد تجد منها عشرة أحزاب تتمتع بالحد المتوسط من المواصفات المتعارف عليها للأحزاب السياسية أما البقية الباقية فأغلبها ” عناوين فارغة” ؛ البعض منها ترأسه شخصيات وازنة و مستقيمة تتحين لتفعيله حصول عافية أفضل للجسم السياسي و البعض الآخر و هو الجزء الأكبر للأسف إنما هو عبارة عن “مقاولات ” للتسوق السياسي” و “الإيجار الانتخابي”…

و حيث أن حال الممارسة السياسية عندنا علي ما هو عليه من الهوان و الشيطنة و التمييع و نظرا إلي أن الأحزاب السياسية هي حمالة آلام و آمال الناس من خلال مشاريعها المجتمعية و أن “الساسة هم الموقعون عن العالمين” فإنه من المستعجل خلال الحوار السياسي المنظور مراجعة الترسانة القانونية المنظمة للأحزاب السياسية تعزيزا لدور الأحزاب و تفريقا بين الصالح منها و الفاسد و بين الغث و السمين و بين المتسيس اختيارا و المتسيس اضطرارا و “المتسيس مكرها” و المتسيس مقتنعا….

و يتعين أن تسير تلك المراجعة في اتجاه تحقيق هدف تمهين الممارسة السياسية و صقلها مما علق بها من أدران التهوين و التمييع وذلك من خلال ثلاثة محاور يدور المحور الأول منها حول ترفيع الشروط العلمية و الأخلاقية لإنشاء الأحزاب السياسية فيما يعني المحور الثاني بإعداد معايير علمية لأهلية استمرار الأحزاب أو سحب تراخيصها علي أن يخصص المحور الثالث لمراجعة صندوق الدعم العمومي للأحزاب السياسية من خلال زيادة مبلغه المالي من جهة و استحداث تحفيزات مادية من جهة أخري لإعادة توجيه القيادات الحزبية الذين دخلوا السياسة اضطرارا لا اختيارا ابتغاء دمجهم في الحياة النشطة من خلال منافذ أخري أنسب لمؤهلاتهم و مهاراتهم ذلك خير لهم و أحسن موئلا .

المختار ولد داهي

سفير سابق

خبير تحليل و تقييم السياسات العمومية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى