مقالات

تصنيف حاجاتنا في ضوء سورة قريش / د. محمد محمود أحمد محجوب

يَخْتلِفُ مفهومُ “الحاجَة” حسبَ الحقْل المعرفيِّ المستخدَمِ فيه (أصول الفقه، علم النفس، الفلسفة، …) لكنَّه – بوجهٍ عامٍّ- يتَّجِه إلى: “ما يَفتقِرُ إليه الإنسانُ ويُضطرُّإليه، فيطلُبُه، ويَسعى إلى تَحْصيله”.

قد يَقودك فهْمك للأمور إلى أنّ الحاجة هي: العِلْمُ، أو المالُ أو الصحةُ، أو المنصٍبُ، أو الجاهُ. وربما نَحَوْتَ بها نَحْوَ الزَّواج، والولَد، والمسْكن. وقد تجِدُها في النجاح في امتحانٍ تَخُوضُه أو في الظفر بمركب تَقْتَنِيه … أو غير ذلك.

أنتَ مُحِقٌّ في جميع ذلك، لكنَّ الأسئلةَ المهمَّة في مُقاربة موضوعٍ كهذا هي: ما أبرزُ الحاجاتِ الإنسانيةِ؟ وكيفَ تَتَدَرَّجُ؟ ووفْقَ أيِّ معيارٍ يُمكننا تَصنيفُها؟

لِنَسْتَضِئْ بسورة (قريش) في تبيُّن أهمِّ حاجاتنا اسْتِلْهامًا مِمّا وردَ في السورةِ الكريمةِ عن قبيلة قريش.
*
تَتَضمَّنُ سورةُ (قريش) أربعةَ أصنافٍ للحاجاتِ الإنسانيةِ متدرِّجة تدرُّجًا منطقيًّا، ومنتظِمة انتظامًا مُحْكَمًا، مُشَكِّلَةً ما يشبه البِناء الهَرَمِيّ، وهي:

الحاجة إلى الطعام ونحوه: [الذي أَطْعَمَهُم من جُوع].الحاجة إلى الأمن: [وَآمَنَهُم منْ خَوْفٍ].الحاجة إلى العلاقات الاجتماعية [لإيلاف قريش].الحاجة إلى العبادة [فليعبدوا رب هذا البيت].

1) “فالطَّعامُ” حاجةٌ ماديةٌ أساسية، بها قوام البَدَنِ؛ فلا يُتصور موجودا دونها كما لا يتصور انطلاق عربة ذات محرِّك دون وقود أو ما يُشاكِلُه. ويتنزَّلُ الطعامُ من الحاجات منزلة القاعدة من البنيان. وقد عَدَلَ التعبير القرآني عن “الإشباع” إلى “الإطعام” لأن الطَّعامَ يُزيلُ الجوعَ، والإشباعَ يورثُ البِطنة (3)!

2) “والأمن” حاجة معنوية بها يتحققُ الاستقرارُ والتوازنُ النفسيُّ، وتشملُ الاطمئنان على: النَّفس والأهلِ والمالِ …

وتظهر قيمة هذه الحاجَة من:
– كون الخائف لا يُسيغُ طعامًا ولا شرابًا.
كَوْنِ انضمام #الأمن – منَ الأعداءِ والأدْوَاءِ – إلى #الطعام يُثمر #أسسَ_الحياة: “مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَاحِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا” (4).

3) “والعلاقات الاجتماعية”: حاجَة يعكسُها: التآلف، والمحبّة، والأنس، وضروب التعاون الذي من ثمَرِه: الرفاه الاقتصادي والتكافل الاجتماعي.

وقد تجاوزتِ الألفةُ في السورة علاقةَ الإنسانِ بالإنسانِ إلى علاقةِ الإنسانِ بالزمانِ والمكانِ. ومِن اللَّافِت أنّ العلاقةَ الأخيرةَ ارتبطتْ بتحقُّق حاجتيِ الإطعامِ والأمْنِ(أخْذًا في الاعتبارِ الترابطَ الدَّلاليَّ بين مُكَوِّناتِ السورةِ الذي جَلَّتْهُ أدواتُ ربْطٍ من قَبِيل: اللام في (لإيلاف)، والفاء في (فَلْيَعْبُدُوا) والإشارة في (هَذَا)).

بيانُ ذلك أنَّ قريشًا “ألفَتْ/ آلفَتْ” رحْلتينِ تجارتينِ تُسَيِّرُ فيهما قَوافلَها شتاءً إلى اليَمَنِ، وصيْفًا إلى الشّامِ. وبهاتين الرِّحلتينِ تَغَلَّبَتْ على أبرزِ التحدياتِ الاقتصاديةِ التي هي إقامتُها بوادٍ لا زرعَ فيه، ولا ضرعَ، فكانِت العائداتُ التجاريةُ التي تَجْنيها مَصْدَرَ رزقٍ وغنًى لأهلِ مكةَ حتّى انعدَمَ فيها الفقراء!

ويُثارُ هنا سؤالٌ مهمٌّ: كيفَ تَأمَنُ القوافلُ التجاريةُ المحمَّلَةُ بالبضائعِ من السَّلْبِ والنَّهْبِ، ويَأمنَ أهلُها منَ القتْلِ والأسْرِ، في مُحيطٍ يطبَعُه الغَزْوُ والإغارةُ وشُحُّ المواردِ؟

ربما كانَ إيلافُ قريش المكانَ – وهو مكةُ المكرمةُ بحَرَمِهَا، المعَبَّر عنه في السورة (بالبيْتِ) – هو الذي مَكَّنَ لهم اقتصاديًّا، ووفَّرَ لهم أيضا الأمْنَ ظاعنين ومقيمين: [أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا]. [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ] (العنكبوت: 67).

وتلك الألفة ترجمتْها أنماطٌ من السلوك الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، انتهجَتْها قريشٌ تجاه الكعبةِ وآمِّيهَا كالسّدانة والسِّقاية والوِفادة … حتّى أضحتْ – مع الأيام – من المآثر والمكارم التي تَعْلو بأصحابها. وكان من ثَمْرَةِ ذلك أنْ هابتِ العربُ قريشا، وحفظتْ لهم مكانتَهم في نفوسِها. وكان القرشيون يدركون ذلك، ويوظفونه، فيقولون عن أنفسهم: “نحن سكان حَرَم الله وولَاةُ بيته”، فلا يَعرض لهم أحدٌ بسوء(4).

قد يقول قائل: إن البركة التي حلت في المكان كانت بدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام: [رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]. (إبراهيم: 37). فلا يمكن عَدُّ ألفة الإنسان غيرِ القرشيِّ لوطنه ذاتَ أثَرٍ في إبْعاد شبَحَيِ الجوع والخوف!

هذا صحيحٌ، ولكن صحيحٌ أيضا أن الزمان والمكان يُشكِّلان جزءًا من الإنسان السَّوِيِّ، فأنتَ – مثلا – حين تُغادرُ مكانًا أظَلَّتْكَ سماؤه، وأقَلَّتْك أرضُه، وحلمْتَ فيه، وأمَّلْتَ،وتَأَلَّمْتَ، وضحكتَ، وبكيْتَ – فإنك تُغادرُه وقد تَرَكْتَ فيه بعضَك! الإنسانُ يألَف الزمانَ والمكانَ اللذَيْن ينتمي إليهما أُلْفَةً تَدْفعه نحو الإنماءِ والبناءِ والدفاعِ عن الأوطانِ فتَتَحَقَّقُ العِمارة والتَّكافل.

4) “والعبادة” حاجَة روحية ساميةٌ، يتحققُ بها شعور المرء بالرِّضا والسعادة. فالإنسان يولد وبه فراغ روحي لا يملؤه إلا تقوية صلته بربه؛ حيث ينعم حينئذ بما لو علمه الملوك لجالدوه عليه بالسيوف!

ومقام معبودية المخلوق للخالق أجلُّ المقامات وأسماها.

والعبادة إطار واسع يشمل التوحيد وغيره، وهو السر في وجود الإنسان على البسيطة: [وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56). فإذا كان جميع ما في الأرض مسخرا للإنسان: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعا] (البقرة: 29) – اتساقا مع خلافته فيها – فإن الإنسان نفسَه إنما خلق ليعبد خالقه، امتثالا لأوامره ونواهيه، مع اعتقاد جازم بتحقق المصلحة الدنيوية والأخروية من وراء تلك الأوامر والنواهي، بما في ذلك: الاطمئنان وراحة البال والسعادة الأبدية.
***
وهكذا تكونُ الحاجاتُ الإنسانيةُ وفقَ مسارها التَّدرجيِّ – استضاءةً بسورة (قريش) – أربعًا، هي:

1) الحاجَة إلى الطعام حفظا للبدن.
2) الحاجَة إلى الأمن ( من الأدواء والأعداء) دفعا للضرر.
3) الحاجَة إلى العلاقات الاجتماعية تحقيقًا للتعاون.
4) الحاجَة إلى العبادة أداءً للوظيفة التي خُلق من أجلها الإنسان.
————-
من أشهر من اهتم بتصنيف الحاجات الإنسانية ماسلو عبر هرمه المشهور.

بقلم الدكتور : محمد محمود أحمد محجوب

Related Articles

Back to top button