عمل إداري مخالف للقانون!
ذكر بعض المواقع يوم الخميس 19 مارس “أن السلطات القضائية في موريتانيا قررت نقل سجناء في ملفات اختفاء مبالغ مالية من الخزينة العامة إلى سجن في مدينة بئر أم اگرين في أقصى شمال شرق موريتانيا”. ويبدو أن النقل تم فعلا.
وقد أثار هذا الحدث ردود فعل مختلفة بعضها عاطفي محض مصدره ذوو المتهمين ولهم العذر فيه، وبعضها سياسي تحريضي صرف لا تعنينا أسبابه ومآلاته هنا، وبعض آخر قانوني لم يوفق في الحز على المفصل ووضع الإصبع على مكمن الداء، رغم حسن نية القائمين به وما تجشموه من عناء البحث، والتزام السلوك المهني. وهذا الشطر هو سبب تعليقنا.
هل تجوز إحالة المتهمين قبل إدانتهم مـن جهة قضائية متعهدة إلى أخـرى؟
إن القضية – في نظرنا- لا تتعلق بالمادة الثالثة عشرة من الدستور، ولا بمعظم القوانين والمعاهدات التي تم التطرق إليها ومحاولة اعتمادها مرتكزا لعدم شرعية نقل المتهمين، ولا بحق الزيارة الذي يثيره المتعهدون، ولا حتى بنظام السجون.
فما جرى يبدو أنه يدخل في إطار توجه الدولة إلى انتهاج التشدد في معاملة بعض المتهمين، بقصد الردع. ومن حق الدولة – ومن واجبها- أن تتشدد في مجال بعض الجرائم الخطيرة كالإرهاب واختلاس المال العام والاغتصاب مثلا.. حماية للمجتمع؛ كما من حقها وواجبها كذلك اعتماد اللين في البعض الآخر إذا توفرت ظروفه دون لبس كما فعل الخليفة عمر بن الخطاب عام الرمادة، وكما فعل الرئيس المختار ولد داداه في جرائم اختلاس المال العام عندما لم تكن بالدرجة التي وصلت إليها مؤخرا، حين شرع مع صرامته في الموضوع، الانذار باسترجاع المبالغ المختلسة، وانصرامه دون جدوى شرطا للمتابعة, ومنح ظروف التخفيف وعدم نفاذ العقوبة في مقابل استرجاع نسب محددة؛ وهي النصوص التي ما تزال سارية المفعول إلى يومنا هذا. وكما فعلت السلطة السياسية الحاكمة اليوم عندما ألغت حبس الصحفيين من مدونة الصحافة.
فالدولة إذن لها الحق في اتخاذ ما تخولها إياه قوانينها من تشدد في موضع التشدد، وما تسمح لها به من لين في موضع اللين.. لحد الاعفاء من العقوبة المنصوص في مدونة الإجراءات. وإن كان ذلك الحق كثيرا ما يكون عرضة لتلاعب النيابة قبْل القضاء الجالس باسم مبدأ الملاءمة الذي يكثر استخدامه لأغراض أخرى غير حسن سير العدالة والإنصاف.
وبعد هذه التوطئة نصل إلى لب الموضوع؛ وهو الإجابة على السؤال الذي طرحناه آنفا ويطرحه جزء حائر من الرأي العام، ألا وهو: “هل تجوز إحالة المتهمين قبل إدانتهم من جهة قضائية متعهدة إلى أخرى؟” فنقول إن مدونة الإجراءات الجنائية الموريتانية تجيز نقل المتهمين قبل محاكمتهم من جهات قضائية مختصة تم القبض عليهم في إيالتها أو ارتكبوا فيها الجرائم محل المتابعة إلى جهات قضائية أخرى من نفس الدرجة؛ وذلك إما لضرورة مبينة يقع عبء إثباتها على النيابة العامة، أو لمتطلبات حسن سير العدالة (المواد من 597 إلى 602). وتقول المادة 567 بالحرف الواحد: “يجوز للمحكمة العليا في مواد الجنايات والجنح والمخالفات، إما لداعي الأمن العمومي أو لحسن سير القضاء أو أيضا بسبب قيام شبهة مشروعة، أن تأمر بتخلي أية جهة قضائية عن نظر الدعوى وتحيل القضية إلى جهة قضائية أخرى من نفس الدرجة”.
هذا من حيث المبدأ، الذي هو الجواز الصريح.
أما من حيث التطبيق، فإن الاختصاص فيما نصت عليه المواد المذكورة منعقد كما رأينا للقضاء، وللقضاء وحده؛ وخاصة للمحكمة العليا، ووفق إجراءات محددة بعيدة عن الهوى. ولا علاقة للسلطة التنفيذية به على الإطلاق.
وعليه فإنه يمكن الجزم، بعد مراجعتنا لدوائر ضبط مناط الاختصاص، بأن تحويل السجناء المذكورين إلى تيرس زمور لا علاقة للقضاء به؛ وبالتالي فهو مخالف للقانون، ومنعدم، لصدوره من غير مختص، ولا أثر له؛ وقد لا يتعامل معه القضاء.
التخلي والإحالة بين الأمس واليوم
كانت أولوية النظام بالأمس هي مجابهة خصومه السياسيين وتكميم أفواه الناس وتفكيك الجمعيات، وكان سلاحه في ذلك تسليط سيف البغي وعصا القانون. ولم يكن يلقي بالا لحماية الشيء العام الذي ترك سدى لدرجة أصبح معها الاستيلاء عليه شجاعة وبطولة يثاب عليها ويقرب أصحابها، وهذا ما شكل مصدر غنى الكثيرين. وكانت الأولوية في تعامله مع خصومه لسيف البغي، وقلما يلجأ لعصا القانون. وإذا لجأ إليها يكون لجوؤه لها شكليا ولا يحترم القانون.
وقد تمثل استخدام سيف البغي في الاعتقالات والمنافي وحل الأحزاب والجمعيات ومصادرة وتوقيف الصحف؛ بينما من أمثلة اللجوء النادر إلى عصا القانون إحالة ملف السيد اشبيه ولد الشيخ ماء العينين من المحكمة الجنائية بنواكشوط إلى محكمة العيون، وإحالة ملف انقلاب 2003 من عهدة قاضي التحقيق بنواكشوط القاضي أحمد ولد سيد أحمد إلى قاضي التحقيق بروصو القاضي سليمان ولد شيبة ثم منه إلى قاضي تحقيق معين هو القاضي أحمد فال ولد الأزغم ومنه إلى المحكمة الجنائية بروصو. وقد تم في هذه الإحالات تجاوز الإجراءات وخرق النصوص الصريحة من طرف هيئة الاختصاص التي تقرر الإحالة على أساس الطلب الوارد إليها من النيابة العامة في نفس اليوم، دون تكليفها بالبينة، ودون إشعار دفاع المتهمين، ودون مراعاة الآجال القانونية المنصوصة لذلك.
واليوم، وقد تغيرت الأولويات، واتجه اهتمام السلطة الحاكمة إلى الإصلاح والتصالح مع المجتمع وحماية الشيء العام ومواجهة الفساد، وتم الإقلاع عموما عن استخدام سيف البغي ضد الشعب؛ يكون من الغريب حقا أن يتم التخلي عن القانون الذي لا يمكن إصلاح بدونه والرجوع إلى سيف البغي والاستبداد. وقد تجلى ذلك في التعامل مع ملفين أساسيين هما تسليم السنوسي، وإحالة متهمي الخزينة إلى محاكم تيرس زمور. فلماذا يتم تجاوز القانون وتهميش القضاء المختص في هذه المرحلة، ولمصلحة من؟ أولا نحتاج إلى من يزن بالقسطاس المستقيم ويحمي من حيف وشطط السلطة فيحق الحق ويزهق الباطل؟ وهل كان ذلك التجاوز جهلا، وإن كان لا يعذر أحد بجهل القانون. أو تجاهلا مقصودا هدفه تخريب عملية الإصلاح من أساسها، وحرمانها من دولة قانون؟