يمثل محمد بن سلمان واحدا من خمسة شباب صعد نجمهم في دول عربية مهمة (محمد بن سلمان، محمد بن زايد، بشار الأسد، سيف الإسلام القذافي، تميم بن حمد) لخلافة أنظمة قوية ومهمة في كل من السعودية والإمارات وسوريا وليبيا وقطر. كان لوجود كل واحد من هؤلاء الشباب مبررات وسياقات مختلفة، وقد كان السياق المشترك هو الحفاظ على نفس الإرث في ثوب جديد يسمح باستمرار النظام الذي كان يحتاج لحركية من نوع ما تتعاطى مع نمط الحياة والمتطلبات الجديدة. وبالنسبة لقطر وحدها كان الأمر جد مهم تكتيكيا بسبب الاختناق الحاصل من حجم المؤامرات التي شاركت فيها أو كانت مصدرها في عالمنا العربي. لقد كانت هذه “الدولة المدينة” هي من بَنت القواعد الأمريكية على أرضها وتدفع نصف تكاليف الصيانة إلى اليوم كثمن دائم لحماية نظام مشاغب، وهو يغط في تآمره المستمر على الأشقاء. لقد ظلت حقا في قلب الصخب، وعلى نحو سلس تم قبول مسح الطاولة والبدء مع نظام شاب مستقل في هذه الدولة عن ذلك الإرث الذي جعل حمد ووزيره الأول يغادران الحكم فيها. لم تشأ الجزيرة أن تسلط الأضواء، في ضوء شعارها العريض (المهنية والتميز)، على ما يكشف ملابسات ذلك التحول، بل باركته وصرفت عنه الأنظار بسرعة فائقة (تماما مثل ما فعلت مع أوردغان إذ لم تشأ أن تكشف كل تلك التصفيات المروعة باسم الانقلاب في صفوف الجيش والمدنيين وإلا لكان واحدا من أسوأ “الديموقراطيين” سمعة في العالم اليوم). لكن الكذبة لم تكن فقط على القطريين وحدهم، بل على العالم من خارج الدائرة. لقد كان الطموح القطري -وهو واجهة الأحداث التي عصفت بالأمة فيما بعد- أعظم من أن يتوقف عند تنظيف جرائم الحكم وتخفيف ضغوط الانتقام منه، بل كانت محاولة اللعب به لإعادة بناء مركز القرار في العالم العربي نكاية بالخليج العربي خاصة السعودية حيث كان انقلاب حمد في يونيو 1995على والده خليفه من أجل فك الارتباط بالسعودية، رغم أنها ظلت إحدى الدول العربية التي أسست سياستها الخارجية على عدم التدخل في شؤون البلدان الأخرى، وإلا لما سمحت بنجاح ذلك الانقلاب على حليفهم الذي أسس لنظام صديق وأخوي. كما لم يخف عليها أن من أسباب الانقلاب على خليفه علاقته القوية بالسعودية.
هؤلاء الشباب الأربعة كانوا خصوما طبعيين للحلم ” القطري”؛ فقد تم التمهيد لسيف الإسلام في ليبيا من خلال بعض الأنشطة الدولية، وخصوصا في ضوء برنامج العشرية المتعلقة بتحديث ليبيا، وقد نجحت قطر في محو القذافي، ومن المعروف أنها هي من دفعت فاتورة تحريك سفينة شارل ديغول العسكرية وإطلاق 400 صاروخ ذكي يستهدف البنية التحتية للشعب الليبي ب 66 طلعة جوية لليوم الواحد ودفعت ثمن وضع سوريا التي كانت تتطور بهدوء على سكة حرب داخلية وصراعات دولية معقدة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، ستحيدها لوقت طويل عن أي تأثير بالنسبة للقرار العربي. وكان الطموح يحاول التسرب إلى السعودية في نهاية الأمر. لقد كان الموقع السوري بالنسبة لروسيا هو ثمن الموقف العسكري الروسي القوي في تلك الحرب لجانب نظام الأسد، وليست روسيا إلا قطعة في أسفل خريطة المصالح الغربية. بينما تمثل السعودية أحد روافد تغذية الاقتصاد الأمريكي، لكنها محط أنظار باقي العالم، ليس بالنسبة للثروة فقط، لكن بالنسبة للإسلام الذي أخذ يتزايد في العالم والغرب على نحو مخيف والذي ظلت السعودية مركزه منذ 14 قرنا. ولكل تلك الأسباب ظلت تمثل المحطة الكبيرة المهمة في كل تلك المخططات، وبذلك لا يُقبل لها -رغم وزنها- أن تكون دولة قوية ومستقرة بالدوام، وهي تملك حجم هذه القلوب المعلقة بها كمركز إسلامي وكبلد ثري جدا. لكن الأسلوب الذي تم به اقتلاع النظام العراقي أو الليبي أو اليمني، والذي حال دون وجود نظام سياسي بديل، لن يكون طريقة جيدة في حالة السعودية، فيجب تجربة الطريقة الجديدة الأخرى، وهي تخريب شرعية النظام والحفاظ عليه بعد ذلك كنظام بلا قلب ولا طموح: أي وضع نظام جديد من صنع الخارج، يتم اختياره كليا بإملاء خارجي، ويكون مدينا كليا للخارج، وخلق آلية للقضاء على أسس المرجعية لنمط الحكم في العربية السعودية. وعلى هذا النحو تماما تم استهداف محمد بن سلمان ولي العهد السعودي صاحب الحيوية المتدفقة والشرعية الواسعة داخل صفوف شعبه خاصة الشباب. إن الخصوصية الإسلامية من جهة، والتفكير بامتلاك أسس القوة من جهة ثانية، هي الأمور المستهدفة بالأساس في السعودية. ولكي نضمن حصول النتائج المهمة من الربيع العربي فها هي تونس صوتت عبر أدوات ديمقراطية على المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث، والآن لا ينقصنا إلا نزع كل الهيبة عن النظام السعودي ووضع نظام يرفع الحماية في جوهرها الديني عن الحرمين وعن صرف المال العميم على التعبئة والتعليم الدينيين الواسعين في العالم، وهذا ما ترفضه الأسرة المالكة وتدفع مقابله باستمرار.
يمثل محمد بن سلمان شرعية الانتقال السلس في السلطة من جيل إلى جيل في طور التجديد أو تطلعات الأجيال السعودية، وهي عملية لابد أن تحدث في السعودية؛ فالشباب السعودي يمثل 70% من الشعب، وهناك مئات الآلاف من الطلاب قد تعلموا في الخارج وعادوا إلى أرضهم، كما عرفت السعودية استخداما واسعا لوسائل التواصل الاجتماعي . إن العقليات والطموح بذلك تغيرت مسافات شاسعة خلال العقد الأخير، وتريد السعودية أن تجعل منه سببا لنهضة محلية واستقرار في الفكر يتواءمان مع متطلبات أوضاعها، لكن ذلك ليس هو المشروع الذي يريده لها الغرب وملحقاته. لقد حمل محمد بن سلمان خطاب المرحلة بالنسبة للسعوديين وحمل أحلام هذه النخبة فيما سمي بـ”رؤية 2030″ التي تتمثل في برنامج طموح لبناء اقتصاد جديد يقوم على خلق موارد إضافية وبنية اقتصادية وتشغيلية قوية، وهو ما يعني الانتقال من وضع اقتصاد ريعي استهلاكي إلى بنية اقتصادية مختلفة تماما وتسعى لكسب رهان التطلعات، وليست المعيارية الغربية هي وحدها من يجب أن تـُقَّيم على أساسه الأمور في السعودية، لأن مزايا النظام السعودي بالنسبة للحساسية الدينية للإسلام تختلف والرؤية الغربية تماما أي أن “السلام أو الجمود مقابل الهوية” ليست هي الصفقة التي يريدها النظام السعودي في الرؤية التي يقدمها محمد بن سلمان حالا، وهذا ما فهمه الغرب وبدأ على أساسه يحرك أدواته بما فيها قناة الجزيره لوقف ذلك وخلق نسخة خاصة من الربيع العربي في السعودية تخدم الولايات المتحدة. وليس هناك أي مانع عند ترامب من ممارسة الضغط في هذا الاتجاه. وقد حصل على ذلك من خلال توجيه التهمة في ذريعة خاشقجي إلى محمد بن سلمان مباشرة، واتهامه بقتل الصحفي بنفس الطريقة التي تدعمها تركيا وقطر كما لو كان ولي العهد داخلا في تفاصيل الفعل وليس أصحاب العملية هم من يقدرون ذلك من تلقاء أنفسهم. لا شك أن ذلك كله من أجل التحطيم المتعمد للصورة أو الرمزية التي تحتلها هذه الأسرة في العالم ومنظومة القيم الأخلاقية والدينية لها وتجريدها من أي مصداقية بالنسبة لزعامتها للعالم الإسلامي والعربي. وبتحقق ذلك تتحقق إمكانية الاستغناء عنها وإسقاط قيمتها ووزنها ودورها في حماية الدين والمقدسات، ومن ثم البحث عن بديل في العالم الإسلامي مثل تركيا. ومن المعروف عن أوردغان أنه مسكون بعظمة العثمانيين التي بدأ بعدها الأساسي بالإسلام وأساسا الإسلام السني، ومسألة الصراع حول الريادة بالنسبة لهذه المسألة لا يمكن خوضها إلا مع السعودية، وليس مع إيران. إنه أمر شديد الأهمية في مواقف تركيا ومستعدة لبذل كل شيء حياله تماما مثل بوتين. إنه في استمراره في دعم سوريا كان ينظر إلى أمجاد القياصرة وأنه لن يتراجع ولن يقبل بالهزيمة ولم يُخضع ثمن تلك التضحية لأي حساب مادي. إن أوردغان يستشعر نفس الأهمية وقد ظل يتطلع منذ بعض الوقت، أثناء شعوره بقوة تركيا، بعودة ذلك الدور الريادي لها، فقد رفض عبور القوات الجوية الدولية الغازية لحدوده باتجاه العراق، كما اختلق مشكلة مع إسرائيل مرات حول غزة وسفينة الحرية وعقد المؤتمر الإسلامي حول الموقف الإسرائيلي من تحويل عاصمة الصهاينة إلى القدس المحتلة بسرعة فائقة وغيرها من المواقف. إنه يسعى لاحتضان قضايا الأمة قبل أن يحصل على سبب لتحييد السعودية كما تم الشروع فيه الآن من خلال موضوع خاشقجي. والواقع أن نظافة المقدسات واحترامها وجو السكينة والأمان الشخصي اليوم ارتبط بهذه الأسرة، فمع بداية القرن الماضي كانت المواقع المقدسة تابعة للأتراك، فهل نريد العودة بالمقدسات إلى ما قبل 1926 حينما تم توحيد مشاعر المسلمين في عمل لم ينقطع إلى اليوم؟ هل يريد أردوغان إرجاع آل رشيد مجددا لوضع سيطرته على المقدسات الإسلامية؟.. السعودية منذ ذلك اليوم تتملك عقول وقلوب المسلمين وهذا التشويه القائم حاليا جاء للتخلص من تلك الأحقية. تكمن الحقيقة في أن السعودية والسنة يواجهان مؤامرة كبيرة، وليس محمد بن سلمان إلا المدخل الأساسي لها حينما يُلبَّس جريمة تَمجها المشاعر الإسلامية، وهذا ما يريده تحالف الشيطان أو نورانيو القرن الواحد والعشرين: تركيا قطر وأمريكا. إنه من المؤسف أن ينخدع قادة رأينا ومفكرونا بالشكل الخارجي للبناء ويتركون البناء الحقيقي الذي هو نسف مرتكزات الانسجام الإسلامي. ليست البداية مع وفاة جمال خاشقجي، فقد كانت هناك حملة من جنس التشويه نفسه تستهدف محمد بن سلمان تتعلق بالصفقة الضخمة مع اترامب وشراء يخت روسي فائق الغلاء، لكن ذلك تجاوز حقيقة أن أي برنامج طموح لابد له من ثمن. لقد تراجع أبوبكر بن عامر عن الحرب مع عامله في المغرب يوسف ابن تاشفين الذي عمل برأي زوجته زينب النفزاوية بأن لا يرد الملك لأبي بكر. عدم دخول أبي بكر في حرب من أجل الحكم هو ما جعل الإسلام يصل جنوب فرنسا وغرب سويسرا ويستمر 470 سنة أخرى في إسبانيا ووصل حدود ليبريا في إفريقيا. إن عدم التضحية بالحكم من طرف إبي بكر بن عامر كان سيوقف كل تلك النجاحات. وهكذا فالتضحية ب500 مليار دولار في سبيل السماح بتبني طموح وطني مختلف يؤسس لتاريخ في سبيل برامج كبيرة يدخل في جنس التضحية بشيء مقابل شيء أهم منه، لكن التضحية بحجم القيود عادة، كما يختلف سلوك الملوك في العيش والتباهي بالمقتنيات عن الناس العادية، ففي القرن الثاني الهجري من القرون المزكاة كان هارون الرشيد من أعظم أمراء العباسيين بل العالم الإسلامي. لقد ذكره الشيخ محمد المامي بعد ألف سنة كمثال للعظمة (ملك امحمد شين أهارون الرشيد ..)، فقد كانت حياته الشخصية مليئة بسبل الراحة بل الترف، ومع ذلك أسس أوسع دولة إسلامية وأعظمها ، كما كان قصر الإليزيه (قصر الرئاسة الفرنسية حالا) قصر لصديقات نابليون إمبراطور فرنسا وجزء كبير من أوروبا حتى روسيا، كما حافظ الحسن الثاني على أناقة ملفتة من خلال الزيارة المنتظمة لأحد أكبر مشاهير الموضة في العالم حينها ومؤسس دار الأزياء في باريس افرانشيسكو سمالتو له لكي يأخذ مقاساته، ورغم ذلك فقد كانت البنية التي تركها الحسن الثاني هي التي جنبت المغرب هذه الهزات، وفي بريطانيا يتم ترميم واجهة قصر باكنهام التي تطل منها الملكة في الأفراح ب 500 مليون دولار كما أن ميزانيته السنوية 450 مليون دولار رغم أن الدولة لبريطانية تسير دون أي حاجة لها.. هذه وغيرها أمور لا تغير من أسباب النجاح ولا من مسارات التطور للشعوب، وكذلك فليس شراء يخت أو قصر هو ما سيعرقل أي خطوة من خطوات هذا البرنامج .
المسألة برمتها تنحصر في أنهم يريدونك أن تأتي من اليسار كما فعل البابا بيوس السابع عندما التقاه نابليون في طريقه من الصيد، فكان يجلس في عربته على الجانب الأيمن، فحيى البابا، لكنه ظل واقفا أمام باب العربة مما اضطر البابا للذهاب إلى الطرف الثاني للعربة ليركب من باب اليسار وتنطلق العربة، وكان نابليون في الجهة التي اصطف حولها الناس حيث ظلوا ينادون بـ: “يعيش نابليون، يعيش نابليون”، ولم يذكر أي أحد منهم البابا بيوس السابع. ومنذ ذلك اليوم تغيرت معادلة السلطة والكنيسة. فلتبق من فضلك على اليمين، ولا تتركهم يكررون “يعيش اترامب أو أوردغان أو تميم” في الجهة اليمنى. فالحرمان والإسلام والسنة ما يزالون بحاجة لقوة السعودية. إذن حللت أهلا ونزلت سهلا في أرض المرابطين.
محمد محمود ولد بكار