أبنائى :
أيها الموريتانيون الرائعون:
لم أعتد الكلام، ولا الكتابة، فحياة الحديد والغبار والضجيج التي عشتها لا كلام معها ولا كتابة، إنها كل التاريخ الجميل الذي تقاسمته معكم.
أحبتى:
أنا الأنثى الوحيدة في بلدكم التي لم تصل سن اليأس أبدا، لقد عاصرت قيام كيانكم الوطني المعاصر، ومن الرئيس الخالد المختار ولد داداه وصحبه الكبار تعلمت الأمل، وتشبثت به.
وقفت منتصبة بجبروت أوقات الحروب والمحل والمحن والأزمات ،وكنت شاهدة على جيل رائع من الموريتانيين الوطنيين الشرفاء.
هنا بين هذه الكدى المهيبة من حولي ترقد عظام عشرات الضباط وضباط الصف والجنود الموريتانيين، من كل الألوان والأعراق والثقافات، الذين حملوا أرواحهم على أكفهم رخيصة في سبيل وطن حلموا به، دافعوا عنه، وماتوا من أجله ذات زمن جميل من الكفاح، ولن أنسى تلك الكلمات الرائعة للرئيس الرمز المؤسس المختار ولد داداه رحمه الله وهو الذي أممنى، و احتضنني، ودافع عنى :”لنبن جميعا الوطن الموريتاني”، وأمانة للتاريخ فقد كان جيل الاستقلال كبيرا بوطنيته، عظيما بطموحاته، موحد الدم والهدف والرؤية الثاقبة.
أبنائى:
أخاطبكم وأنا أغص بدموعي، وأعرف كم هو صعب عليكم رؤية دموع والدتكم الحنون، وهي تبلل وجهها الصابر الصامد بالحزن والأسى.
ليس هذا أول لقاء لي مع الدموع، لكنني كنت أبكى بداخلي بمرارة صامتة، حتى لا ترونى في موقف ضعف أو انهيار، بكيت يوم انسحب العسكر من ميادين القبور إلى حدائق القصور، وعصفوا بأكثر أنظمة البلاد وطنية وصدق سريرة، وبكيت يوم رأيت أختي الشقيقة “الخطوط الجوية الموريتانية” صريعة بلا حراك، وهي تحت “التصفية “يومها كان الخنجر مسموما ،وكان الجرح غائرا ومفتوحا، لكنها أول مرة في حياتي أبكى صراخا، ومشنقة التجاذبات السياسية “النقابية” تزداد ضغطا على رقبتي، و تقربني من نهاية ـ مهما كانت حتميتها ـ فإنني لا أستحقها عليكم جميعا، سياسيين، وعمالا، ومواطنين بسطاء ..!!
ليس لدي توصيف لنفسي سوى أنني أمكم الحنون التي تحبكم، وتثق في ارتباطكم بها، و دعوني أوضح أنكم ترتبطون بى ليس لأنني أرضعتكم حديدا، أو أطعمتكم خبزا، أو كنت المؤسسة الحلوب لأجيالكم، فأنا أدرك إن السياسات الرعناء لحكومات ما بعد 78 ، وبعض الإدارات التي تعاقبت علي حرمت غالبيتكم من الاستفادة من خدماتي، فلم تشاهدوني مستشفيات ولا مدارس، ولا طرقا ولا جسور ولا مشاريع تنموية، كان من حقكم أن تروها وأنتم في أحضان أم حديدية “تبيض” الذهب والنحاس والنماء و”العملات الصعبة”، ولكن سر ارتباطي بكم ،وارتباطكم بى، هو أنكم تحسون مع غباري، وبين ورشاتي، وخلف شعاري المهيب، أنفاس رجال موريتانيين كانوا هنا، وكانوا صادقين مع الله والشعب والوطن ومصالحه العليا، وهو ارتباط حميمي تاريخي، بل وراثي ـ إن شئتم ـ لاعلاقة له بسوق الحديد فى العالم فلا يضعفه تدنى أسعار المعادن عبر العالم، ولا يزيده ارتفاع أسعارها، فهو مثل ارتباطكم بالعلم والنشيد، وجيل التأسيس.
أحبتى:
احتفظت بالجرح طويلا، وتحملت طويلا، وتألمت طويلا، وفضلت الصمت طويلا، حتى لا أعكر صفوكم، وأنا أم، والأم تموت ليخرج ابنها للحياة، وتضعف ليقوى رضيعها، وتسهر أرقا وقلقا لينام أبناؤها، وتشرب السم حتى لا يعرف أبناؤها طعما لغير العسل.
اليوم هرمت دون يأس أو كلل، لكن هرمى ليس بفعل عاديات الزمن، بل لما رأيته من عقوق تشيب لهوله الولدان.
أيرضيكم أن أتوقف..؟!!
أن أموت و أتلاشى..؟!!
أيرضيكم أن تروني بينكم ـ وبفعل سكاكينكم وحماقاتكم ـ ريشة في مهب الرياح..؟!!
كنت أعتقد أنني لن أعدم رحيما أو نصيرا إن لم يكن من حكومة أبنائي، فمن أبنائي العمال، وهم ” يوسف ” عيالى، و اقرب الأبناء إلي، وأحبهم إلي، أما أن تمارس الحكومة العقوق، ثم يمارسه العمال معي، وكأنني لا أهم أحدا، لست إما لأحد، فذلك ما لم أكن أتوقعه تحت أي ظرف من الظروف ..!!
إن الأحداث الأخيرة كانت كلها سياطا من النار تمزق سويداء قلبي، وهو قلب عامر بحبكم، عامر بتاريخكم، عامر بالعطاء لكم، ومن أجلكم.
هل هنت عليكم..؟!!
هل أتيت شيئا فريا..؟!!
( أو هذا جزاء حبي و بذلي..؟!!)
ألم أعد رمزا لسيادتكم بل آخر رمز من رموزها..؟!!
وإذا كان ظلم ذوى القربى (أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند) فما بالكم بعقوق أم كافحت، وربت أجيالا رائعة من العمال والمهندسين والإداريين الموريتانيين، وحنت عليهم في جحيم الحرب، كما في نعيم السلام..؟!!
هل أستحق كل هذا الجفاء..؟!!
تتنكرون لي بعد نصف قرن ويزيد من خدمتكم والحنو عليكم، وكأن قطاري الأروع والأجمل والأطول، لم يسر الهوينى حاملا معه معادن الحديد والرجال، ناشرا الرخاء والألفة والحب بين أبناء الوطن الواحد، حيثما حل وارتحل..؟!!
تتنكرون لتاريخ الرجال الذين أوجدوني ودافعوا عنى و حملونى للعالم سفيرة لكم ،فكان دمهم وعرقهم وجلادهم فسيفساء خالدة ،منها نسجت ثوب البقاء والصبر وقوة المراس.
هل من الوفاء لجيل الاستقلال ولأرواح الشهداء ـ الذين سور ونى بعظامهم وأرواحهم في مشاهد وطنية بطولية أذابت من حديدي ومعدني أكثر مما ذاب في مصانع الصلب و”التصهيد” والصهرـ أن ينهار الصرح المطلي بمعاناتهم ودمائهم وأطيافهم التي لا تغيب..؟!!
نعم، خرجت اليوم من صمت تلفعت به نصف قرن ويزيد لأصرخ في وجوهكم، لأقول لكم : عار عليكم أن تموت أمكم بسكاكينكم، عار عليكم ـ وأنتم أحفاد المرابطين والفاتحين والأبطال ـ أن تجهزوا على والدتكم التي تحبكم، والتي حملتكم كرها، ووضعتكم كرها.
عار على الحكومة أن تتخلى عنى، وعار على أبنائي العمال أن ينسوني في ذروة صراعهم ” السياسي الانتهازي ” الأرعن مع الحكومة.
أنا لا أخاف الموت، لكنني لا أريد أن أموت بسكين أو رصاصة غدر من أحد أبنائي، والموت غربة وتشردا أحب إلي من أن انتهى مغدورة من أبنائي، صريعة خيانتهم وعقوقهم .
لا يمكنني أن أتحمل ظلمكم، لا طاقة لى بذلك.
اجلسوا معا، ناقشوا معا، وهذه أحضاني، بنفس الدفئ الذي عهدتموه، فتوصلوا لحل ينقذ أمكم، التي لا ترضى لكم العقوق، وهي أيضا لا تفرق بينكم ،لا تنظر إليكم باعتباركم حاكمين أو محكومين، كلكم أبنائي وأنا والله أحبكم حبي للرعيل الأول من آبائكم بناة بلدكم الحديث، لقد حملوني ميراثا لا نهاية له من حبكم، والحرص على وحدتكم وسيادتكم وكرامتكم الوطنية، وهو ميراث سيبقى هنا بين حبيبات الرمل، ونفائس المعادن وصخور الجبال، ولن أفرط فيه أبدا
كونوا مثلهم شجاعة ونبلا وصدقا وكفاحا ووطنية.
كونوا مثلهم رجالا في الأوقات العصيبة ،بدورا في الليالي المظلمة، أسود شرى إذا سيم الوطن الخسف والظلم، وامتحن الرجال في “معادنهم”، واحتاج الأمر لإقدام الرجال، لا لدموع النساء..!!
أتوسل إليكم تحركوا من أجلى من فوركم هذا.
واسمعوني فإن الحق أنطقني، وأخشى أن يخرس ألسنتكم.
أعيدوني إلى شبابي وحيويتي، أعيدوا قطاري إلى سكته.
أريد أن أعيش، أريد غباري وحديدي، ومعدني و رجالي.
أريد أصوات الرجال، وضجيج المحركات.
أريد أن أرى عرق الرجال يعجن صبرا ووفاء ذرات الرمل، وبلورات الحديد، وأكوام الحجارة.
تعانقوا من أجلى، وتسامحوا،وقدموا تنازلات مشتركة، وافتحوا عيونكم وقلوبكم على مساحة مشتركة للتفاهم، وتغليب المصلحة العليا لوطن هو أمانة في أعناقكم جميعا، وتجاوزوا كل الحزازات من أجلى، ومن أجلكم أيضا، فلا وجود لي دونكم ، ولا معنى لكم بدوني..فما أنا واستقلالكم إلا ( رَضِيَعيْ لِبَانِ ثَدْيِ أمٍّ تَحالفاً … بأسْحَم دَاجٍ عَوْضُ لاَ نَتَفرَّقُ)
لا تتركوا أمكم تموت أمام أعينكم.
افعلوا شيئا من أجلى..على الحكومة أن تحيط عمالي بالرعاية المناسبة، عليها أن تمنحهم سكنا وعلاجا وتعليما وكرامة
وعلى عمالي وهم أبنائي وقرة عيني وسر بقائي أن يبتعدوا عن الشحن السياسي، وأن لا يحنوا ظهورهم أبدا لتجار الشعارات السياسية، وأن لا يعلبوا مصالحهم الشخصية على مصلحتي كأم احتضنتهم وأحبتهم، من يدرى قد يكون بعض عمالي رأس حربة خفية فى مخطط ممنهج للتخلص منى وأنا واثقة أنهم لا يدركون حجم ذلك المخطط ولا أبعاده، بل حتى لا يعرفون أنهم مدفوعون بجنون ليكونوا جزء منه، وأذكركم جميعا حكومة وعمالا ومواطنين بمثلنا الشعبي السائر الحكيم: ( إذا لاحظت أن شخصا يتقاسم معك الطعام يحاول أن يكسر إناء طعامكما المشترك فلا تتركه يفعل)
ثم تذكروا أن موتى و خرابى نذير شؤم عليكم، وهل كتب الله العزة لجيل يحترف العقوق عبر التاريخ كله..؟!!
وإذا كان قراركم الجماعي أن تقتلوني، فلا أقل من أن تجعلوا من قبري مزارا مسجى بالنجم والهلال، يرقص أبدا على أنغام النشيد الوطني، وتزوره ذات زمن موريتاني قادم ـ مع أسراب الطيورـ أجيال من الموريتانيين الحقيقيين وطنية وصدقا وشجاعة وتحملا للمسؤولية.
أما رجائي الأخير فهو أن لا تتصنعوا البكاء علي، فأنا لا أتحمل أن تقتلوني عقوقا، و تبكونى نفاقا، لا تسيروا أبدا في جنازة قتلتموها صلفا وجنونا ، وخروجا عن المألوف..!!
ولعامة الموريتانيين الطيبين الذين سيبكون ـ بعفوية وصدق أما أحبوها وألفوها وفقدوها ذات عقوق شاحب ـ فأقول:
لا تثريب عليكم، فلا يليق بكم أن تبكوا كالنساء، رمزا سياديا لم تدافعوا عنه كالرجال.
أمكم التي تحبكم سواعد وعقولا، وحتى سكاكين وعقوقا: “أسنيم”