في عام 49 قبل الميلاد، وبسبب المخاوف من تنامي قوة “يوليوس قيصر”، أصدر مجلس الشيوخ الروماني قرارا بعزله، وكان الرجل آنذاك حاكما على جزء من بلاد الغال (فرنسا الحالية)،
بدل الإذعان لقرار مجلس الشيوخ، سيقوم يوليوس قيصر بحركة لم تكن في الحسبان، حين عبر بجنوده المدججين بالسلاح، نهر الخوف أو النهر المحرم “نهر الروبيكون”، الذي يفصل بين إيطاليا الرومانية ومقاطعة الغال الجنوبية، وكان محظورا على الجنود يومها عبور ذلك النهر بأسلحتهم،
وهكذا ظهرت العبارة الشهيرة:”لابد من عبور الروبيكون”،Il faut franchir le Rubicon التي سيشيع استخدامها في ما بعد، كناية عن القرار الذي لا يمكن العدول عنه أو الذي لا مفر منه،
بعد حوالي ألفي سنة على فعلة يوليوس قيصر تلك، أي في خريف عام 1940، سيعيد الكرة قائد عسكري آخر من بلاد الغال، برتبة جنرال، سيجد الجسارة الكافية لكي “يعبر الروبيكون”،
كان يمكن للجنرال ديغول أن يحصل على حقيبة وزارية مريحة في حكومة فيشي، التي شكلها المارشال فيليب بيتان، بعد سقوط فرنسا في يد النازيين،
وكان يمكن للجنرال أيضا أن يستمتع بطعم القهوة الفرنسية العتيقة كل صباح ورائحة الورد توضبه سكرتيرة جميلة، بينما يتأمل هو هدوء نهر السين من نافذة مكتبه، لكن الرجل فضل أن يعبر المانش، بدل أن يمضي وقته وهو يدير بصره بين السين والورد والسكرتيرات الجميلات،
بعد ذلك بسنوات قليلة، سيدخل ديغول باريس دخول المنتصرين الفاتحين، وسيصبح الرجل أيقونة التاريخ الفرنسي الحديث، سيضيفه الفرنسيون، هذا الشعب المتأفف بطبعه والذي لا يعجبه العجب، إلى قائمة أشيائهم المحببة، وستصبح بلدة كولومبى الهادئة، حيث عاش الرجل سنين عمره الأخيرة ومات ودفن، مزارا للفرنسيين ولغير الفرنسيين،
بعد سبعة عقود ونيف من فعلة الجنرال تلك، أي في ربيع 2017، سيعيد الكرة شاب من بلاد الغال، سيجد هو الآخر الشجاعة الكافية لكي”يعبر الروبيكون”،
كان يمكن لإمانويل ماكرون أن يبقى وزيرا للمالية وأن يستمتع لأشهر معدودات بمناظر حي برسي الراقي في الدائرة الثانية عشرة من باريس، لكن الرجل قرر أن يجرب أمرا آخر،
عبر ماكرون”الروبيكون” إلى فرنسا فجاءت هي إليه، بيسارها ويمينها ووسطها وخضرها وحمرها وسمرها وبيضها، لقد عرف الرجل كيف يقتنص حالة تأفف عام، حين أدرك أن الجمهورية الخامسة المترهلة، باتت بحاجة إلى من يعيد إليها ألقها وينفض عنها غبار السنين، وأن قصر الإليزيه بات على مقاسه هو وحده،
التاريخ لحظات فارقة، إما أن تقتنصها فتزرعك بين الغيوم، وإما أن تفلتها فترسلك إلى المنحدرات القاسية،
في موريتانيا وفي صيف 2007، كان يفترض أن يعبر أحدهم النهر، تركزت الأنظار يومها على الزين ولد زيدان، الخارج لتوه من الانتخابات الرئاسية، بمرتبة ثالثة مريحة، تشبه الحلم بالنسبة لشاب في مثل سنه، ما يزال عوده السياسي طريا،
حبس الجميع أنفاسهم، كان أمام ولد زيدان خياران، السهل هو الالتحاق بمرشح “الاستبلشمنت” والصعب هو عبور “الروبيكون” وصناعة غده السياسي بصبر بين صفوف معارضة، هي في أمس الحاجة إلى دماء شابة تغذيها،
سيختار الرجل الطريق السهل والقصير الذي يقود إلى السراي الحكومي، وبدل أن يعبر “الروبيكون” سيعبر المحيط الأطلسي في مقعد مريح على متن درجة رجال الأعمال، ويصبح موظفا في بريتون وودز، وسيخسر الوطن رهانا آخر،
بعد هذه الحادثة بعشر سنوات، وفي صيف 2017، ها هو الدكتور مولاي ولد محمد لغظف يجد نفسه فجأة على ضفة “الروبيكون”، بعدما تسلل الخدر إلى علاقته بساكن القصر الرمادي،
السياق هذه المرة مختلف تماما عن 2007، موريتانيا على بعد خطوتين من 2019، واللحظة لحظة تذمر وتأفف عام والمعارضة بحاجة إلى مرشح يجمعها وقد أعياها البحث عنه حتى الآن وكل المعطيات الوطنية تغري أقوى المترددين أن يجرب عبور “الروبيكون”،
في حوزة الدكتور أكثر من “كرت” رابح، فلديه سمعة طيبة لم يعتريها دنس السنوات الماضية، ويمتلك علاقات جيدة مع الجميع، وهو قادم أصلا من المعارضة ما يعني أنه ما زال يحتفظ بصداقات هناك، وخروجه في هذا الوقت بالذات هو بمثابة تسجيل موقف قوي مما يدور حوله، ومذكرة الرجل مطرزة بعناوين وازنة في الداخل والخارج، ولديه تجربة غنية، هو الذي تقلب في عديد المناصب ما بين سفارة ووزارة،
لم يكن أحد يتوقع أن آدما بارو سيصبح رئيسا لغامبيا، تطلب الأمر أن يقوم يحي جامى بسجن رئيس الحزب الذي ينتمي إليه الرجل، فوجد بارو نفسه فجأة في دفة القيادة، حدث ذلك في وقت كانت فيه المعارضة الغامبية تبحث عمن يوحدها ونظام جامى المهلهل بحاجة إلى من ينفخ فيه نفخة واحدة لكي ينهار،
قصص النجاحات السياسية لا تكون في العادة معقدة جدا، بل هي في أغلب الأحيان مقتضبة وبتفاصيل بسيطة للغاية،
فهل يفعلها الدكتور ويعبر “الروبيكون”؟؟
البشير عبد الرازق