لا ريب أن عدم الحجر على التفكير و عدم المساس بحرية الرأي و التعبير، هما مبدآن مقدسان و قيمتان ساميتان تستوجبان دعم و مؤازرة كل من يتشبث بأسس الديمقراطية و يحرص على مقومات المدنية و التحضر. كما أن استعمال العنف المعنوي و المادي
ضد الصحفيين و الإقدام على تصفيتهم الجسدية عقابا لهم على آرائهم و أفكارهم أيا كانت، هو تصرف مقيت و مرفوض. و من ثم فإن الوقوف إلى جانب الصحفيين الذين يقعون ضحية العنف ايا كان شكله و درجته و التضامن القوي مع كل وسيلة إعلام تتعرض للمضايقات و الابتزاز و محاولة التركيع و التطويع هو بدون شك موقف سليم جدير بالدعم و الإسناد.
لكن هناك شروطا وضوابط وقواعد و أخلاقيات و مسؤوليات لا بد من مراعاتها والتقيد بها في ممارسة حرية التعبير بكل تجلياتها و أساليبها. و من غير المستساغ على الإطلاق، أن يتم التذرع بحرية التعبير من طرف بعض وسائل الإعلام لتعمد للقيام عن سابق إصرار و ترصد بانتهاك أعراض الناس و استفزازهم و المساس بمقدساتهم و تتفيه رموزهم الروحية و الحضارية و جرح مشاعرهم الدينية. كما أنه لا ينبغي أن تكون ثمة انتقائية و ازدواجية في المعايير حيال ممارسة هذه الحرية بحيث يترك لها الحبل على الغارب دون حد أو قيد في بعض المجالات بينما توضع لها حدود و خطوط حمراء يحظر عليها تجاوزها في مجالات أخرى.
إلا أن هذه الوضعية الغير قويمة و المفارقة هي التي تسود الآن مع الأسف في جل البلدان الأوروبية ، حيث يسمح المزاج العام و الإطار القانوني السائدين في هذه البلدان بأن تقوم بعض الصحف، متحججة بممارستها لحرية التعبير بالإساءة المتعمدة و العدوانية إلى أقدس رموز المسلمين و هو الرسول الأعظم محمد صل الله عليه و سلم.في حين يحظر عليها تحت طائلة العقوبات القانونية الصارمة و السخط الشعبي العارم أن تشكك و لو بشق كلمة في الصدقية المطلقة لما قيل و كتب عن محرقة اليهود إبان الحرب العالمية الثانية ( و خير دليل على ذلك جرجرة المفكر و المؤرخ الفرنسي الكبير رجاء جارودي أمام المحاكم بتهمة تحريف التاريخ !) و لا يسمح لها على الإطلاق أن تستهجن علنا زواج المثليين أو لأنتقاص من قيمة و سلوك الشواذ و المخنثين وما شاكلهم من منحرفين عن نواميس الطبيعة.
و ما هذه الازدواجية الصارخة في المعايير في حقيقة الأمر إلا أحد مظاهر استصغار العرب و المسلمين و الاستخفاف بشأنهم ينضاف إلى مختلف مظاهر الإسلاموفوبيا البغيضة المنتشرة في المجتمعات الأوروبية و تجليات التهميش و الإقصاء ضد المواطنين الأوروبيين من ذوي الأصول العربية و المسلمة في تلكم المجتمعات . ناهيك عن عدم اكتراث الأغلبية الساحقة من الأوروبيين حكومات ومؤسسات و فعاليات اجتماعية بما تمارسه اسرائيل يوميا على مرأى و مسمع من الجميع من قمع و تهجير وتجويع و تقتيل و إبادة جماعية ضد الفلسطينيين نساء و شيوخا و أطفالا. و ما آخر عدوان على غزة عنا ببعيد.
و لو توقفت الأمور عند هذا الحد لأمكن السكوت عليها و لو على مضض، لكن زيادة على كل ذلك فإن معظم الدول الغربية، تحت إملاءات إسرائيل وحليفتها المخلصة الإدارة الأمريكية، قد انخرطت بشكل أو بآخر في تنفيذ المشروع الصهيوني الأميركي المسمى “الفوضى الخلاقة “و الذي يهدف إلى تفكيك المجتمعات العربية و الإسلامية و تقطيع أوصالها وزرع الفتنة و الخلافات بين مكوناتها الإجتماعية و الزج بها في أتون حروب أهلية مدمرة وصولا إلى تحويلها إلى كيانات هزيلة ضعيفة و فاشلة. هذا ما حصل في العراق و في أفغانستان و في السودان و في اليمن و في ليبيا و في سوريا حيث تم تحويل هذه البلدان بشكل مدروس و ممنهج إلى ساحات اصطراع و اقتتال تعيث فيها تنظيمات إرهابية ظلامية و متوحشة مثل داعش و أخواتها ، قد تم إنشاؤها و تسليحها و تعهدها بعناية كبيرة من أجل إعدادها على الوجه الأكمل لتنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة الذي أومأنا إليه آنفا و الذي يبدو أنه قيد التنفيذ في منطقة الساحل الصحراوي.
و للتعمية على المضي في تنفيذ هذا البرنامج الخبيث يعمد إلى رفع شعارات صيانة حقوق الإنسان و تأمين العدالة و المساواة للأقليات الاجتماعية و إلى السعي إلى تشجيع و دعم الحركات الانفصالية وإ لى إذكاء النزعات الفئوية و الشرائحية المتطرفة الهدامة التي يراد لها أن تهدد الأمن و الاستقرار و السلم الإجتماعي و انسجام مختلف مكونات المجتمعات العربية و الإفريقية المسلمة التي قد تعايشت في تفاهم و وئام و تكامل أحقابا طويلة من الزمن.
في هكذا سياق، ونتيجة لتضافر العوامل التي تعرضنا لذكرها آ نفا،تم الهجوم على مقر الصحيفة الفرنسية الساخرة ( التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس) “شارلي أبدو” وقتل عدد من الصحفيين المسئولين عن إنتاج و إعادة إنتاج الرسوم المسيئة إلى الرسول الأكرم صل الله عليه و سلم. وقد هلك جراء هذا الهجوم أشخاص ليست لهم علاقة بإنتاج هذه الرسوم إنما شاء لهم سوء الطالع أن يتواجدوا في المكان الخطأ في الزمان الخطأ.
فاحدث هذا الهجوم و النتائج المأساوية التي انجرت عنه، أحدث صدمة كبيرة طالت تموجاتها العديد من بلدان العالم و سببت غضبا و استنكارا في البلدان الغربية و من يتماها معها، قاد إلى غليان اجتماعي و فوران عاطفي صاخب تضامنا مع صحيفة ” شارلي أبدو” ومؤازرة لفرنسا و انتصارا لحرية الصحافة و حرية التعبير.
و نظرا للأهمية القصوى التي يكتسيها هذا المبدأ و انطلاقا من رفض العنف و معارضة الإرهاب بكل أشكاله، فإن التعاطف مع مبدأ حرية الصحافة و التضامن مع كل وسائل الإعلام الساعية بإخلاص و بحسن نية إلى تكريس هذه الحرية و الوقوف إلى جانب فرنسا في هذه الظرفية الخاصة، كل ذلك كان واردا و مبررا و محبذا من حيث المبدأ . و هذا هو ما حدا ببعض الساسة العرب و المسلمين و بعض قادة الرأي في البلدان العربية و الإسلامية لإبداء تضامنهم مع فرنسا ووقوفهم إلى جانبها من خلال مساهمتهم بوفود رفيعة المستوى في التظاهرات التي نظمت بهذا البلد و من خلال اتخاذ مواقف مساندة و مؤازرة له.
إلا أنه و مع الأسف، حدث ما لم يتوقعه من القادة العرب و المسلمين إلا من رحم ربك، حيث قيم برفع شعارات مريبة و صادمة لمشاعر العرب و المسلمين بل و مثير ة للقرف و السخط الشديد شعارات من قبيل : ” أنا شرلي” ، “كلنا شارلي” ، ” كلنا يهود”، “فرنسا من غير اليهود ليست فرنسا”إلى غير ذلك من الترهات الغبية . ما أثلج صدور اللوبيات الصهيونية أين ما وجدت و غمر الوزير الأول للكيان الصهيوني ناتنياهو بالسعادة و الابتهاج وأعطاه الفرصة ليوجه نداء حارا إلى اليهود الفرنسيين و غيرهم ليبادروا بالالتحاق بفلسطين المحتلة و إعمار المستوطنات التي هي قيد الإنجاز و ذلك على مسمع من محمود عباس و غيره من القادة العرب و المسلمين الذين حضروا من بعيد للتضامن مع فرنسا !!
و الأدهى و الأمر من ذلك أنه قد تم بحضورهم و في تحد سافر لمشاعرهم، رفع رسوم جديدة مسيئة إلى الإسلام و المسلمين ، الشيء الذي يدل بمالا يدع مجالا للشك على الاستخفاف بهم و الاستهتار بمقدساتهم، ما جعل ممثلي بعض البلدان العربية في هذه التظاهر، المغرب تحديدا، يغادر التظاهرة على الفور احتجاجا على هذا التصرف المهين.
و هنا لا يسعنا إلا أن نثني على موقف الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي امتنع عن حضور هذه التظاهرة ذات الطابع الكرنفالي، فوفر بذلك على نفسه و على الشعب الموريتاني الإهانة و الاحتقار .فشكرا السيد الرئيس على هذا الموقف الموفق إذ أنه كما يقول المثل الحساني عندنا : ” الما هاب ركوبك لا تهاب التنكاس بيه !!”.
إلا أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا أن المساس بحرية الصحافة المسئولة هو عمل مستساغ أو أن استهداف حياة الصحفيين مهما كانت آراؤهم و مشاربهم هو تصرف مقبول، كما لا ينبغي أن يستشف منه أن العنف و الإرهاب يمثلان سلوكا يمكن السكوت عليه أو تركه يمر دون استنكار و شجب و إدانة.
و ربما يكون من الوارد هنا أن نذكر فرنسا بما كان لها إلى عهد قريب من صداقة عريقة و روابط تاريخية و ثقافية مع العديد من البلدان العربية و الإفريقية المسلمة. و أن نهيب بها أن لا تفرط في هكذا رأس مال إن هي أرادت أن تحتفظ بما كانت تتوفر عليه من نفوذ و تأثير و مودة مع هذه البلدان. و هذا ما قد تنبه إليه وزير الخارجية الفرنسي السابق االسيد دومينيك دو فيلبان ( Dominique De Villepin) الذي حذر من التفريط في العلاقات التقليدية بين فرنسا و العالمين العربي و الإفريقي..
ولا ريب أن شغف بعض الساسة الفرنسيين الحاليين بإسرائيل و ميولهم الصهيوني المعروف و انحرافهم عن سياسة استقلالية القرار التي عرفت بها فرنسا منذ العهد الديغولي إضافة إلى نزوعهم إلى انتهاج سياسات التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية و الإفريقية المسلمة التي كانت تربطها بفرنسا أواصر صداقة قوية تحت ذرائع مختلفة لا ريب أن كل ذلك من شأنه أن يضر بمصالحها و يقلص من نفوذها و إشعاعها و يهدد مصالحها و أمنها على أكثر من صعيد.
و اعتقد أن رفع شعاري : ” كلنا يهود” و ” فرنسا بدون يهود ليست فرنسا” هو تصرف بالغ الضرر على مصالح و أمن فرنسا و حميمية علاقاتها مع العالم العربي و الإفريقي و قد بدأت إرهاصات ذلك تلوح في كل من موريتانيا و النيجر و اتشاد و الحبل على الجرار. ذلك أن شعار: ” كلنا يهود” يعني ضمنيا: كلنا صهاينة عن بكرة أبينا و كلنا بالتالي معادون للعرب و المسلمين. و من اعترف على رؤوس الأشهاد بصهيونيته فلا يستغربن أن يناصبه العداء كل ضحايا الصهيونية و هم كثر.
و قديما قال العرب في أحد أمثلتهم : ” من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن”
نواكشوط 18 يناير 2015
محمد الأمين ولد الكتاب