لا يهمني من يكون رئيس بلدي؛ فموريتانيا ليست ملكا لأحد؛ بل هي لكل مواطنيها، ويحق لكل من توفرت فيه الشروط القانونية أن يتقلد فيها المنصب الذي يستحق..
ولكنني بالقطع سأكون أكثر ارتياحا (معنويا على الأقل) إذا كان رئيسها هو نفس الشخص الذي أعجبتني شعاراته وتبنيت برنامجه؛ ثم ارتبطت به في ما يشبه العلاقة “الوجدانية”؛
منذ قررت الانحياز الصريح إليه في مواجهة كل خصومه يوم أصابته رصاصات “اطويله” المشئومة ودخلت في حملة مؤازرة ومعاضدة مفتوحة له لم تتوقف قط إلى أن شفاه الله من آثار تلك الرصاصات المثيرة للجدل.
إنه الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ لكن يخطئ من توهم أن تكون تلك المؤازرة الصادقة جاءت ابتغاء “البركة”؛ أو بدافع خوف من مغنم أو طمعا في مغرم؛ بقدر ما كانت إرضاء لضميري، وثباتا على ما أحببت دائما أن أكونه: “نصير المستضعفين”؛ طاعة لله وابتغاء لمرضاته..
ويشهد كل الذين تابعوا كتاباتي تلك أنني لم أتكاسل قط في مؤازرة رئيس أضعفه المرض، ولم أتخل عنه قط إلى أن تعافى وتحول من حالة من استضعفه الرصاص، إلى حالة القوي الذي أراد أن يجرب حقيقة استعادة قوته بمحاولة استضعاف رعيته وعركها وإهانتها وإذلالها..
لذا أستميح القارئ عذرا عن هذا التحول من كاتب ينتصر لرئيسه الذي أنهكه المرض؛ إلى كاتب ينتصر لشعبه المنهك بسبب سياسات رئيس يتغول …
وأعتذر منك أنت سيدي الرئيس؛ فما عدت أنت الذي كنت أعرف، أو الذي توهمت يوما أنني عرفته؛ فقد رحل ذلك الرئيس بشعاراته وممارساته التي أعجبت كثيرين غيري؛ حتى لا أقول: “التي خدعت كثيرين معي”!!
لا وقت لدي الآن للعودة كثيرا إلى الماضي، فالضغوط الحاضرة قاهرة؛ ونذر المستقبل تثير من القلق ما لا تخطئه عين الفطن.
في الحاضر رئيس أعلن الحرب على الجميع حتى أقرب المقربين إليه وأكثرهم دالة عليه:
– أدان شيوخ أغلبيته ووصفهم بأبشع النعوت (الغدر والخيانة)؛ وحرمهم حقهم في أداء واجبهم الدستوري، واستكثر عليهم أن يكونوا أصحاب رأي يعبرون عنه دون إذن سابق منه.
– استخف بالصحافة (السلطة الرابعة) حين “استضافهم” في مؤتمر صحفي ليمرر من خلالهم رسائل تحديه للجميع؛ ولكن أيضا ليتلذذ بالسخرية منهم، واستخفافه بهم، واحتقاره لهم.
– افتعل “مناسبة” واهية ليجدد تلذذه بالسخرية من شعراء البلد وأدبائه ومثقفيه؛ بعد أن كلف مدير إذاعته بتحمل مسئولية إهانة العلماء وتحجيمهم وإيقافهم عند حدهم…
– استخف بحماته ورفاقه وشركائه في المؤسسة العسكرية؛ عندما اختزل كل إنجاز لهذه المؤسسة في شخصه هو دون شريك ولا حتى مساعد يشار إليه؛ ولو من طرف خفي…
– ثم تحدى الأمة كلها عندما لم يجد ما يثني عليه سوى أعضاء حكومته الذين تحولوا إلى مزارعين ناجحين لبذور الاحتقان والسخط الشعبي بسبب سياساتهم الفاشلة، وممارساتهم التمييزية، ومكوسهم وضرائبهم المهلكة بحق من اختار الرئيس أن يكون رئيسهم وحدهم؛ فاختار لهم الحكومة الأمينة على الاحتفاظ لهم بالصفة اللازمة كي يبقى هو رئيسهم: إنها صفة الفقر والفقراء…!!
– وحتى لا يخطئ أحد من أهل البلاد فهمه؛ حرص الرئيس أن لا ينهي مؤتمره الصحفي حتى يعلن للجميع أن لا أحد في البلد يستطيع منع إرادته النافذة ولو كان الشعب نفسه؛ فكان رده الصارم على سؤال حول احتمال أن يرفض الشعب المصادقة على تعديلاته الدستورية؛ بالتأكيد على أنه شخص من طراز خاص، وأن الله لم يخلقه للاستقالة ولا للفشل…!!
– ولأن هذه الدوغماتية المفرطة يمكن أن يفهمها بعض “السذج” على أن صاحبها يحظى بحماية خارجية؛ حرص فخامته على أن يخلل مؤتمره الصحفي برسائل التحدي والاستخفاف بجميع شركاء موريتانيا الخارجيين الذين لا يستطيع الواحد منهم أن يرفع بصره في وجه رئيسنا وهو يكلمه؛ حسب ما قال سيادته في ذلكم المؤتمر الذي أكد خلاله أيضا عدم اهتمامه بإخراج بلده من المنطقة الحمراء؛ ربما لأنه لا يملك نزلا سياحيا ولا يحصل على قوت عياله من ذلك النشاط؛ أما الفقراء ففقرهم خير له من غناهم؛ لا لشيء سوى لأن رئيسنا لا يشرفه أن يكون رئيسا للأغنياء… والله أعلم…
فعلى من يراهن الرئيس في هذه الحرب المفتوحة على الجميع؟؟؟؟
النتائج المنطقية لهذا التوجه الغريب تتابع بوتيرة مفزعة في تسارعها؛ فأصوات الغضب تتعالى وتخرج من مرابعها التقليدية في حصون المعارضة إلى معاقل الموالاة، والعصابة النافذة تواصل تضييقها على الناس في أمنهم ومصادر أرزاقهم.. واليوم فاتح مايو كان بداية شرارة لا يعلم غير الله أين سيصل لهبها المتطاير، وليس أخطر ما فيها استغلال بعض المجرمين لحالة الغضب الشعبي من أجل النهب والسرقة والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة؛ بل أخطر من ذلك محاولة الإعلام المتزلف ابتزاز المواطنين العاديين وتجاهل معاناتهم ومظالمهم الجلية من خلال تركيزه المكشوف على أعمال التخريب؛ ومحاولة إظهار الأمر كما لو كان مجرد انفلات أمني سببه المجرمون والغوغاء، وليس السياسات المدمرة لعصابة نافذة في النظام والحكومة لم يعد أمام رئيس الجمهورية مهرب من مواجهتها والتخلص منها؛ أو الاعتراف بها وتبنيها والانحياز إليها ضد شعبه، وحقوق مواطنيه، واستقرار بلده.
وفي كلتا الحالتين لا أستطيع إلا أن أقدم نصيحة صادقة لهذا الرئيس (رغم كل الجفاء الحاصل) أن الحذر الحذر من خدعة الأسماء المتغيرة، والمواقف المتغيرة، والولاءات المتغيرة، ولا تغرنك الصفات المتغيرة وأولها صفة “فخامة الرئيس”، وأنت خبير كم تغيرت هذه الصفة عند كثيرين غيرك؛ فصارت “الرئيس السابق”، أو “الرئيس الراحل”، أو “الرئيس المرحل”، أو الرئيس “المخلوع، وحتى “الرئيس الهارب”!!…
واعلم أنه “ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى؛ ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن إلى ربك المنتهى”.. صدق الله العظيم
محفوظ الحنفي