مقالات

العرب و إيران : صراع أم تنافس أم تكامل؟

إن الطريق إلي استكناه العلاقات المعقدة بين العرب و إيران طويل و شاق و يتطلب “زادا ثقيلا” من التمكن من خفايا التاريخ و فهم خبايا الحاضر و استشراف زوايا المستقبل مما يضيق به الحيز المتوسط لهذا النوع من المعالجات السريعة، لذلك سأكتفي بوضع “إشارات مرور” panneaux de) route ;roadsigns_” علي طريق تأسيس نموذج سياسي ملائم لفهم و ضبط العلاقات شديدة التوتر بين العرب و إيران .

و تسخينا للذاكرة، فإن العلاقات السياسية بين التكتلات و المجاميع و الدول الكبري تأتي غالبا في شكل ثلاثة نماذج: أولها “نموذج الصراع”( الساخن أو البارد) كما هو حادث بين روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية و بين الهند و باكستان و ثانيها “نموذج التنافس” كما هو واقع بين الولايات المتحدة و أوروبا و ثالثها نموذج التكامل و المثال الساطع علي ذلك ما هو معيش بين الدول الرئيسة داخل كتلة الاتحاد الأوروبي ألمانيا و فرنسا مثلا.
و لتوضيح الفروق بين النماذج الثلاثة فإن “نموذج الصراع” قائم علي الاستعلاء و إرادة الهيمنة و إلغاء الآخر أو الإضرار به و لو بالطرق الكيدية و الغير سلمية بينما يقوم “نموذج التنافس” علي فضيلة الغّبّط( و هو تمني الحصول علي مثل ما حصل عليه الآخر مع حسن النية اتجاهه) و التسابق إلي الأفضلية و إرادة التميز و القيادة من خلال الوسائل الشريفة و النظيفة من غير إلغاء للآخر و لا إضرار به فيما يؤسس “نموذج التكامل” علي خصلة التضحية و الإيثار و العمل المشترك من أجل تحقيق المصالح المشتركة.
و العلاقة بين العرب و إيران في أيامنا هذه علاقة شديدة الالتهاب و القابلية للتحول من حالة ” شبه حروب بالوكالة” كما هو واقع الآن بسوريا و العراق و اليمن إلي “حروب بالوكالة” أو إلي حروب مباشرة لا قدر الله و هي مثال ساطع “لنموذج الصراع” الآنف بيانه.
و يعود طغيان نموذج الصراع بين العرب و إيران إلي جملة عوامل منها:
أولا: رواسب المرارة لدي غلاة القوميين الفارسين من الفتح الإسلامي العربي: حيث أنه من المعروف أن العلاقة بين العرب و الفرس قبل الإسلام شهدت حالة من الكر و الفر، من الحرب و الحرب المضادة و كانت أيامها دول .
و جاءت الفتوحات الإسلامية علي يد دعاة مجاهدين عرب لتحسم الحرب لصالح المسلمين العرب و لتخلف في أذهان بعض غلاة القوميين الفارسيين مرارة دفينة بالشعور بالهزيمة و العزيمة علي الانتقام لا زالت حتي الآن تؤثر علي الإنتاج الفكري و المواقف العملية للكثير منهم و لو حسن إسلامهم.

ثانيا:الانتقامية الطائفية لدي الأصوليين الشيعة من حكم الدول الأموية و العباسية و العثمانية: تعتبر إيران الدولة الحاضنة للمذهب و التراث الشيعي و يوجد بها تيار شيعي أصولي متطرف يسعي إلي ترويج فكر الانتقام من اضطهاد الشيعة خلال حكم الدول السنية التي تعاقبت قرونا علي حكم العالم الإسلامي و منهم من يتبني النزعة الاستئصالية ضد المذهب السني.

ثالثا:إرادة الهيمنة و تصدير الثورة لدي الجمهورية الإسلامية الإيرانية: بلغ التوتر العربي الإيراني ذروته مع بداية تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية1979 التي بعثت منذ أيامها الاول برسائل سلبية إلي العالم العربي أكثرها إيلاما التخوين حول القضية العربية المركزية- القضية الفلسطينية و منها التدخل السافر في الشؤون الداخلية تحت غطاء حماية الاقليات الشيعية او دعم القوي التقدمية و يعتبر “تصدير الثورة” العقدة المركزية في التعايش العربي الإيراني؛

و يجدر بل يجب التنبيه في هذا المقام و المقال إلي أن الإنتاج الفكري للعديد من العلماء و الأدباء و المفكرين و السياسيين الإيرانيين من خارج فئني المتطرفين القوميين الفرس وغلاة المذهب الشيعي خالية من المرارة القومية الفارسية و الانتقامية الطائفية الشيعية.
و تشهد لهؤلاء ألسنتهم و كتاباتهم و إسهاماهم العلمية الرائعة في العلوم الإسلامية و اللغة العربية و مواقفهم من القضايا العربية المركزية و هم يمثلون فئة الأمل في إرساء نموذج إيجابي للتعايش العربي الإيراني و يلح علي ذهني تسميتهم ” الإيرانيين العرب”.

رابعا:الشطط لدي “القوي القومية العربية العاطفية” في الترويج لاستعادة أمجاد التفوق العربي الإسلامي: ساهم و يساهم الغلو في الخطاب القومي العربي العاطفي -تمييزا له عن الخطاب القومي العربي العقلاني السمح و المنفتح- الداعي إلي استعادة أمجاد العرب باعتبارهم أمناء علي المشروع الإسلامي و هم وحدهم دون سواهم من تحق لهم قيادة العالم الإسلامي في تنشيط و توسيع دائرة التعاطف و الانتساب لردات فعل شديدة التطرف من القوميين الفرس و كلا الطائفتين من غلاة القوميين العرب و الفرس تضعان في الواجهة خطابا تفوح منه رائحة الاستعلاء و الأفضلية علي أساس “الدم” و النسب.

خامسا:التكفير بالجملة للشيعة من طرف غلاة السلفية الجهادية: ساهمت ظاهرة “القاعدة و أخواتها” في حضور إعلامي قاهر لخطاب الغلو السلفي المكفر بالجملة للشيعة و الداعي إلي استئصال الشيعة من الخارطة الإسلامية؛

سادسا: وهم الدور العربي في إسناد العداء الأمريكي و الغربي لإيران: أدي الخوف الأمريكي علي إسرائيل من الوعيد الإيراني و التخوف العربي من تهديد تصدير الثورة الإيرانية إلي تصور إيران لوجود “تحالف ظرفي غير معلن ” بين الغرب و العرب ضد السياسة الخارجية الإيرانية. و تعبر إيران عن عتب شديد علي الدول العربية مكررة بأن عدم التفاهم الداخلي بين الدول الإسلامية لا يبرر التحالف مع “الشيطان الأكبر” و “العدو الاكبر” للإسلام و المسلمين.
و يلزم التنويه إلي أن العديد من العلماء و المفكرين و السياسيين العرب و السنة يعترفون بالجميل للحضارة الفارسية في إثراء و توسيع قاعدة الخارطة الإسلامية و لا يقيمون وزنا لزبد المتطرفين القوميين و الطائفيين الإيرانيين.
كما يتبرأون من أفعال القاعدة و أخواتها و أٌدبيات و بروباغاندا القومية العربية العاطفية ويحملون انطباعات حسنة و آمالا عراضا حول إمكانية التعايش السلمي بين العرب و إيران و لا يقبلون التعرض لعداءات المتطرفين الفارسيين و الطائفيين إلا من باب ردة الفعل المحسوبة و المتوازنة الواقعة تحت سقف ” اضعف الإيمان” و يجدر نهت هؤلاء ” بالعرب الإيرانيين”.
و سبيلا إلي تفادي صدام ذي لبوس قومي – طائفي بين العرب و إيران أخشي أن يكون اقترب تكامل أشراطه، يتعين أن تبادر النخب الفكرية بالعالم العربي و إيران من مختلف المنازع القومية العقلانية و الإسلامية الوسطية و العلمانية المنفتحة و اليسارية التقدمية و الليبرالية الناعمة وكذا أصدقاء السلام في العالم إلي دعم فئتي ” الإيرانيين العرب” و العرب الإيرانيين” المنوه عنهما سابقا سبيلا إلي صياغة مشروع سياسي يكفل “التعايش الإيجابي” بين العرب و إيران.
و يستمد الدعم المطلوب من النخب الفكرية وجاهته من استعجالية تحييد و نزع ألغام نموذج الصراع الذي تدق طبوله الآن “أجندات غربية” معادية للإسلام و العرب مسنودة “بمغامرات إيرانية” استدعت “ردات فعل عربية” و سعودية بالأساس من خلال ” عاصفة الحزم” و التي هي في تقديري مندرجة تحت سقف “أضعف الإيمان”.و تنبغي الاستعاضة عن نموذج الصراع هذا بنموذج التنافس الإيجابي علي ريادة العالم الإسلامي علي غرار ما هو حاصل بين العرب و تركيا مثلا.
و لعل مما يساعد في تأسيس النموذج التنافسي بين العرب و إيران تشجيع العرب أنفسهم علي إرساء نموذج تكاملي داخلي علي غرار أوروبا أو الولايات المتحدة أو الهند أو ألمانيا الاتحادية حتي يكون في مكنتهم المساهمة الفعالة و المنظمة في نموذج تنافسي أو نموذج تكاملي مع إيران و تركيا و غيرهما من أقطاب الشأن الإسلامي تنافسا أو تكاملا يحفظ للعرب مكانتهم في العالم الإسلامي و يقوي اللحمة الإسلامية و يعزز السلم العالمي.

المختار ولد داهي، سفير سابق
خبير تقييم السياسات العمومية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى