مقالات

من يحكمُ موريتانيا؟!

قد يتصوًر البعض أن ضبابية الوضع الوطني الراهن هي ما تدفع لطرح تساؤلات قد تبدو وكأنها تتعلق ببديهيات، غير أن الوقائع الضاغطة على الأحداث وتأثيراتها المباشرة على تسيير الشأن العام، هي ما تفرض إعادة النظر في بديهيات من قبيل أن رئيس الجمهورية ما يزال الممسك بزمام الأمور كما كان منذ وصوله للسلطة سنة 2008.
أين نحن من الرئيس الحاضر في كل مكان وزمان والمتابع لكل الملفات؟ أين نحن من الرئيس الذي كان يجمع في يده كل سلطات البلاد قبل تقلص حدود صلاحياته، ليس ليتقاصر دون حدود السلطتين التشريعية والقضائية، بل ليبدو كمجرد شريك ضمن آخرين باتوا يهيمنون على الجهاز التنفيذي؟..
هل هي إكراهات “المأمورية الأخيرة” التي تجعل الرئيس ملزما بغض الطرف عن معاونيه في انتظار مغادرة السلطة؟ أم هو الطموح الأعمى ما يجعل أعناق بعض أبرز معاوني الرئيس تشرئب لخلافته وتخوض صراع وجود يطغى حتى على حضوره؟
لم يكن أشد المراقبين يقظة بقادر على تصور أن صراع مراكز القوى قادر على احتلال الواجهة في نظام رئاسي، غير أن الواقع المعيش يكشف لنا اليوم مدى نفوذ هذه المراكز التي ما فتئت تتكاثر كالفطر، محولة الدولة إلى “إقطاعات شخصية” أو محميات لمسؤولين يسعون لأن يجعلوا من مراكزهم الحالية نقطة انطلاق لاحتلال مراكز أعلى وأهم بما في ذلك رئاسة الجمهورية.
لقد أصبحنا اليوم أمام ظاهرة مثيرة للاهتمام تستدعي انتباه علماء الاجتماع والسياسة معا: ما الذي يجعل معاونا بسيطا –تم استجلابه أحيانا من الهامش- يتحول بمرسوم إلى قائد قطب لا يطمح لأقل من الرئاسة؟ وما الذي يجعل هذه الحالة تتحول إلى ظاهرة في نظام ظل يجعل من المركزية مرتكزا لفلسفته الإصلاحية؟ أهو خلل في النظام، أم تعبير عن تحوٌل هائل في قيًم “الموالاة” جعلها تطمح لما هو أبعد من تأييد الرؤساء والتمديد لهم؟
قد يبدو الأمر طبيعيا في ظل نظام ديمقراطي حيوي يبحث عن تشجيع بروز القيادات، لكنه يصبح غير ذلك حين يتسبب في شلل النشاط الحكومي والإضرار بالمصالح الوطنية، كما يحصل حاليا بعد أن تسبب عدم الانسجام الحكومي في تعطل مسيرة الإصلاحات وتحولت التعيينات في الوظائف الحكومية إلى أداة لتصفية الحسابات.
وإذا ما اكتفينا بموضوع الحوار الوطني كمثال على التلاعب الحاصل بالمصالح العليا للبلاد، فسنكتشف حجم تأثير مراكز القوى هذه وجرأتها على إفشال مخططات الرئيس.
فبالرغم من تأكيد رئيس الجمهورية في كل مناسبة على حيوية هذا الحوار بالنسبة لمستقبل البلاد وعلى استعداده التام لتوفير الظروف الضرورية لأن يكون شاملاً لمختلف الطيف الوطني، تأخر الحوار طويلا وانعقد جزئيا وهو يحمل في طياته بذور فشله!
ربما لا يدرك الكثيرون أن سر تعثر الحوار يكمن في ارتباطه بانتخابات نيابية وبلدية سابقة لأوانها، لأن تنظيم مثل هذه الانتخابات يعني في العرف الدستوري تشكيل حكومة جديدة كما يعني من جهة أخرى تعيين قيادة جديدة للحزب الحاكم وإحالة منتخبين كثر إلى التقاعد. وهو ما يفرض موضوعيا تحالفا بين الوزير الأول ورئيس الحزب الحاكم مدعوما من طرف المنتخبين الخائفين من فقد مقاعدهم.

شبح الحوار!
تكمن مهمة هذا الحلف في منع أي تقارب بين السلطة والمعارضة، بل في تسميم العلاقة بينهما وتفخيخها لإبعاد شبح الحوار وتفجير هذه العلاقة كلما دعت الضرورة. وهو ما نجح فيه بكفاءة عالية: ألا يتذكر الجميع تصريحات رئيس الحزب الحاكم التي كانت السبب في قطع الاتصالات بين السلطة والمنتدى منتصف السنة الماضية؟ ومن منا ينسى عملية “المشاغبة” التي قام بها الوزير الأول ضد المنتدى حين كان يعقد سلسلة مهرجانات في الولايات الشرقية؟ أو “لعبة الأيام التشاورية” التي نظمتها الحكومة لقطع الطريق أمام المساعي القائمة حينها لإشراك مختلف قوى المعارضة في الحوار؟
حتى الحوار الحالي بعد أن انعقد بحضور جزء من الطيف المعارض، قام الحلف بمحاولات محمومة لتفجيره من الداخل من خلال التأثير على بعض قوى الأغلبية للانسحاب منه أو عبر دسً مجموعات من الغوغائيين ضمن المشاركين لطرح مواضيع تخرق التفاهمات الممهدة له لدفع المعارضة المشاركة إلى الانسحاب منه!
لو أن الحلف بالموازاة مع هذه الجهود التخريبية، بذل جهودا بنفس القوة لتحقيق المهام الموكلة إليه، لهان الأمر باعتبار أن شرعية الانجاز قد تسوغ الطموح المعلن للطرفين، غير أن الحصيلة الجلية لأداء كل من الحكومة والحزب الحاكم تكشف أن كلما تحقق لا يتجاوز المشاغبات والمماطلة.
ألم يعترف الوزير الأول قبل فترة قصيرة –أمام المسيرين وأمام كل الرأي العام الوطني والدولي- بأن الفساد مستشر في إدارته وبأن جميع ممارسات الفساد التي كانت تمارس في العهود السابقة ما تزال متبعة في الوقت الحاضر؟
ألا يقتصر دور الحزب الحاكم في الوقت الحالي على افتعال المعارك الجانبية والمشاركة الاستعراضية في الاستقبالات بعد أن عجز عن لعب دوره في تنظيم منتسبيه والدفاع عن الرئيس؟
ألا يماطل رئيسه منذ تعيينه في إعادة بنائه رغم “تهديده” المستمر بإطلاق حملة الانتساب والتنصيب في أقرب الآجال؟
كل ما يحسنه الوزير الأول إذا هو المشاغبة على معارضة الرئيس لتحريضها عليه وكلما يفعله رئيس الحزب الحاكم هو المماطلة في بناء الآلة التي ينتظر أن تدافع عنه. وهكذا بين المشاغبة والمماطلة تضيع المأمورية الثانية لرئيس ترك مكشوفا من دون خطوط دفاع لصد هجمات خصومه.

نقلا عن السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى