الأخبارمقالات

الهابا ومداخلة النائب ؛ قراءة فى البعد المؤسسي والقانوني!../ د.محمد ولد عابدين

شكل تعامل الهابا مع المحتوى الإعلامي لمداخلة النائب محمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل ، تجسيدا حيا للأداء المثالي للمؤسسات الجمهورية المستقلة فى تعاطيها بحرفية ومهنية مع مختلف الفرقاء والفاعلين الوطنيين ، وتطبيق القانون على الجميع خدمة للصالح العام ، ونظرا لما أثاره البعض من تساؤلات حول هذه الحادثة ، أروم فى هذا المقال -كإعلامي مهتم بقضايا الاتصال ومتابع لملفات الإعلام الوطني- تقديم قراءة قانونية فى بعدها المؤسسي والقانوني مع تسليط الضوء على هذه الهيئة المؤسسية المستقلة ؛ أهدافها ومهامها وأدوارها فى التمهين والتمكين لقيم وأخلاقيات الخدمة الإعلامية العمومية الواعية المنضبطة بمعايير المصداقية والمسؤولية والمهنية ، توضيحا للمعلقين والمدونين حول الحادثة ؛ إعلاميين أوقانونيين أوقراء عاديين ، وبعيدا عن مناكفات ومماحكات بعض السياسيين المغرضين المناهضين لمبادئ تجذير المؤسسية والنظام والمعيارية.

فى سياق التجسيد العملي لتعهدات رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني بالتمكين لحرية التعبير ، وتمهين الممارسة الصحفية ، تم فى مستهل مأموريته تشكيل لجنة عليا لإصلاح قطاع الصحافة شكلت استجابة مقدرة للفاعليين بالحقل والداعين إلى ترقيته وتنقيته من كل الشوائب والاختلالات ، وقد عهد إلى هذه اللجنة بصياغة مقاربة إصلاحية شاملة للقطاع ، انطلاقا من مسار تشاوري استمعت خلاله للصحفيين والخبراء والمتخصصين ، وتوجت عملها بتسليم تقرير تضمن 64 توصية أقرت الحكومة تنفيذها -تدريجيا- وتحويلها إلى قوانين ولوائح تنظيمية وإجراءات تنفيذية لإصلاح القطاع ، انطلاقا من تعزيز المدونة القانونية وتطوير البنى التحتية ، وترقية المصادر البشرية والمالية ، وتحسين المضامين والمحتويات ومناخ الانفتاح والحريات.

وعلى مستوى تعزيز الترسانة القانونية الناظمة للإعلام فى البلاد تمت صياغة رزنامة قوانين جديدة ؛ من بينها قانون الصحفي المهني تكريسا لقيم الحرية والمهنية ، وقانون الدعم المندمج للصحافة الخاصة فضلا عن اعداد مراسيم البطاقة الصحفية والخدمة الإلكترونية ، إلزاما للمؤسسات الصحفية المعنية باكتتاب صحفيين مهنيين فى سياق توسعة دائرة الممارسة الصحفية الإلكترونية .

إن الهابا فى حلتها الجديدة النوعية والمتنوعة الفاعلة والكفوءة والمستقلة هي ثمرة من ثمار هذا الإصلاح المنبثق عن إرادة جادة وعاقدة العزم على إرساء مؤسسات جمهورية قوية ومستقلة قادرة على ترسيخ وتعزيز قيم الديمقراطية فى البلد ، وفى هذا الإطار يندرج إقرار قانون مراجعة هيكلة السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية ؛ المتضمن توسيع صلاحياتها وزيادة أعضائها لتمثيل الكيان الصحفي والطيف المعارض فى مجلسها ، بغية تمكينها من لعب دورها المحوري فى الضبط والتطوير والتكوين والتمهين ، وتأمين النفاذ العادل والولوج المتوازن إلى منابر الخدمة العمومية.

وأعتقد أن فى مراجعتنا جميعا القانون الجديد للسلطة العليا مايكفى لرفع الالتباس الحاصل حول صلاحيات “الهابا” فى أذهان بعض من تساءلوا او دونوا أو علقوا على قرارها الأخير الملزم لصفحة النائب محمد بوي ” بالحذف الفوري لنص مداخلته المنشور عليها ، والاعتذار لمتابعيها عن إعادة النشر التفصيلي والكلي للمضمون المسيئ “..فضلا عن ” إلزام جميع القنوات والمنصات والمواقع والصفحات بالامتناع عن إعادة نشر هذا المحتوى المسيئ للجناب النبوي “..وهو ماحدث بالفعل حيث استجاب المعني فورا وقام بسحب المحتوى المذكور وقدم الاعتذار لمتابعى صفحته ، كما قامت أجهزة الهابا المكلفة بالرقابة والضبط بمتابعة تنفيذ هذا القرار وتطبيقه على كل الناشرين المشمولين ، فضلا عن إلزام قناة “البرلمانية” العمومية بحذف مضمون المداخلة ، وهنا ننوه إلى أن المسطرة القانونية التأديبية طبقت على النائب بصفته ناشرا وصاحب صفحة إلكترونية ، فالهابا لاتتدخل فى مايجرى داخل قبة البرلمان الموقر ، إلا حينما تتحول مداخلات البرلمانيين إلى مخرجات إعلامية منشورة عبر قنوات أومواقع أومنصات أوفضاءات أوسائط داخلة في مجال صلاحيات ضبط المحتويات والمضامين الإعلامية المخالفة لقواعد وضوابط النشر.

والواقع أن الهابا إنما تصرفت فى ضوء صميم صلاحياتها وصلب اختصاصها ؛ حيث أصبحت بعد إعادة هيكلتها الجديدة ، وتعديل القانون المنشئ لها مسؤولة عن ضبط مضامين الإعلام الرقمي ومحتويات النشر الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي .
وقد نصت المادة 3 (جديدة) من هذا القانون على أنه : “تدخل في مجال صلاحيات السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية كل وسائل الإعلام العمومية والخصوصية المكتوبة والسمعية البصرية والرقمية التى ينطبق عليها القانون الموريتاني “..وحددت المادة 4 (جديدة ) من نفس القانون مهام السلطة العليا فى “السهر على تطبيق التشريعات والنظم المتعلقة بالصحافة والاتصال السمعي البصري والإعلام الرقمي وقنوات التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل ووسائط التواصل الرقمية…”..ونصت على أنه فى طليعة مهامها : “متابعة مساطر التأديب التى تهم المؤسسات الصحفية والصحفيين المهنيين والمدونين المتعلقة بأداء هذه المؤسسات والكيانات لما يلزمها به القانون أو بإخلال المهنيين بواجباتهم المهنية أوخرقهم للأخلاقيات المهنية أو للقواعد المطبقة فى المجال “…
كما ورد فى المواد : 8 , 9,10 ..” تبت السلطة العليا بصفتها مجلس تأديب فى مجال الصحافة والاتصال السمعي البصري والرقمي “…”وتعد كل سنة تقريرا عاما عن نشاطها وعن تطبيق الأحكام التشريعية والتنظيمية الخاصة بالصحافة والسمعيات البصرية وبالإعلام الرقمي “..كما أنها ” تساهم في إعداد قاعدة بيانات لكيانات الإعلام الرقمي وتساهم فى وضع آلية للتشاور معه بشأن تحسين المحتوى الرقمي للبلاد وتعزيز آليات الضبط الذاتي والمؤسسي الذي يصون الحرية ويكرس الحق فى الإعلام “…

وهي بذلك إنما تلعب دورها المحوري – كمؤسسة جمهورية مستقلة – فى الضبط والتطوير والتمهين والتكوين والتمكين لقيم العمل الإعلامي الناضج الناصع والنابع من رؤية إعلامية قارة واستراتيجية اتصالية مدروسة ، والمنضبط بمرجعية مؤسسية واضحة ومدونة قانونية صارمة ، تسعى إلى تأمين وتحصين حرية التعبير وتجسيدها مكسبا وطنيا وخيارا استراتيجيا أساسيا ؛ يشكل ركيزة محورية للممارسة الديمقراطية ورافعة قوية للتنمية.

وقد عرف أداء السلطة العليا بفعل هذه الاصلاحات ديناميكية وحيوية من خلال مواكبتها الدائمة للمشهد الإعلامي الوطني ، ومراقبة محتوياته ومضامينه وفحص مدى مطابقتها للالتزامات القانونية والأخلاقيات المهنية ، فضلا عن تطوير وتحسين خبرات الصحفيين عبر التنظيم المستمر للدورات التكوينية فى مختلف الأجناس الصحفية ، وتأمين الإعلام الرقمي وتحصين أخلاقيات المهنة وتنظيم المؤسسات الإعلامية المهنية ، ومواكبة الصحفيين والمدونين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بموجب تعديل القانون المنشئ لها بما أضافت تعديلاته من توطيد قيم المهنية والاستقلالية والشفافية.

كما تتجسد ديناميكية الهيئة فى ماتنجزه من مواكبة يومية مشهودة للحقل الإعلامي ، إضافة إلى تحقيقات التعددية الدورية التى ترصد حضور قوى الأغلبية والمعارضة والنوع والشباب وذوى الاحتياجات الخاصة فى مجمل المساطر البرامجية ، ومواكبة وضبط الحملات الدعائية فى المواسم الانتخابية ، وتفعيل الضبط اليومي للمشهد السمعي-البصري والإلكتروني ، ينضاف إلى ذلك ماحققته من كسب لثقة الشركاء المحليين من إعلاميين والشركاء الدوليين من منظمات دولية وهيئات ضبطية أثمر استقطاب مشاريع هامة وتوقيع اتفاقيات متنوعة لصالح الإعلاميين.

وإن من أوجب واجباتنا كإعلاميين ومسؤولين وسياسيين الاطلاع على قوانينا وتثمين تطبيقها وتدعيم أداء المؤسسات الضبطية المستقلة وحجم الإصلاحات المدخلة عليها لصالح تطوير الإعلام ؛ استقلالية ومهنية وحماية لحق المواطن في منتوج إعلامي متميز ، وصيانة للحريات ، وتفعيلا للضبط وأداء للمهام القانونية.

 

د.محمد ولد عابدين
أكاديمي وإعلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى