مقالات

اعصار كورونا .. موت الأخلاق و نهاية العولمة / آدو ببانه

يعمد الافراد عادة و تندفع المجتمعات .. في أزمنة المحن و في اوقات الهزات .. الى الطي المؤقت للخلافات و تأجيل النزاعات .. ، تصحوا الضمائر و تزهوا .. ، و يتسابق الجميع لتنمية الروابط .. ، و تعزيز التعاون و التناصر و التآزر .. إلى أن تنجلي الغمة و تنطفئ الحرقة و تندمل الجراح .. ، و التضامن الناشئ في مثل هذه الحالات يحدث أنماطا من الروابط تحد من طغيان الشطط و النزعات الفردية .. و يندحر في ظلها العسف و الجور النابعين من غرائز التوق الى المنافع و اشتهاء المصالح و تقديسها و الميل إليها .. ، و حينها تتهادى البشرية خلف علاقات تخطها الضمائر المرتوية بالإنسانية و بالانحياز لأخلاقها و مبادئها .. فتندك المصالح و تنهدم الذوات .. ، و تضج الحياة باللطف و يغمرها اللين و يغشاها التحنن و المواساة .. و تنطمس فيها الخشونة و ينكسر الطمع و ينفل الحقد و الاجتواء .
و في عصر العولمة الذي باتت الدول فيه تقترب في علاقة بعضها بالآخر من حالة الأفراد داخل المجتمع الواحد .. بل و تتماثل معها إلى حد بعيد فإن دول العالم ينبغي أن تكون محكومة في علاقاتها بهذا المنطق .. خاصة بالنسبة للعالم المتقدم الذي يعزف دوما على هذا الوتر و يطرب و يرقص لدوي صوته و ألحانه .

لقد شكل اعصار كورونا الذي يضرب العالم و يؤذي الحياة في هذه الأيام امتحانا لبعض الأفراد و لبعض دول العالم في التعاطي مع ظرف جائحته ..، و بشكل أكثر تحديدا فإنه قد ترك تساؤلات مفتوحة .. قسمت فئة التجار على المستويات المحلية الى فسطاطين في تعلقهم بالمبادئ و الاخلاق .. اذ عمد البعض منهم الى انتهاز ظرفه متعلقين بمقولة ( مصائب قوم عند قوم فوائد ) ، و غار من وجوههم ماء الحياء .. فاستغلوا حالة الذعر و الهلع لرفع الأسعار و تطفيف المكاييل و الغش و التزييف و الاحتكار و المضاربة و التهريب .. سبيلا للتربح ، و مراكمة المكاسب و المغانم الحاصلة من رحم الاوجاع و النزيف ؟ و على المستوى الدولي فقد ظل سيل التساؤلات مدمدما في العقول جارفا فيها ..، فهل كانت اسرائيل مقنعة أخلاقيا في صلفها و تعنتها في الإبقاء على الحصار المضروب على قطاع غزة المكلوم .. ؟ و هل غاب عنها أن تغول الوباء داخل القطاع القابع في درك البلاء و في أوار المحنة منذر بإطالة أمد المعركة مع الداء مع ما في ذلك من تكاليف بشرية و مادية قد تخرج إليها مسبباته و تلتهمها في كل حين .. ؟ أليس في هذا الظرف ما يكفي من أسباب للجنوح لمنطق الإنسانية و إخماد للغطرسة و إرجائها لوقت موافق ؟ و هل كان الوقت مناسبا لقيام آمريكا برشق الصين في هذا الحال العصيب بالاتهامات المبطنة و بالتشفي الكريه ” فيروس الصين و غيرها ” ؟ و هل تليق النكاية و الثأر من المبتلى ؟ ، و هل كانت ايطاليا و اسبانيا تتعاملان حسبما يتردد بأسلوب أخلاقي و حضاري في تمييزهما بين المرضى لمنح الأولوية في العلاج على أساس السن .. ؟ ألم تخفق دول الاتحاد الاوروبي في تعاملها مع ايطاليا و اسبانيا ؟ ألا يعتبر نسفا لمبدأ العولمة ما تقوم به اليوم بعض الدول من منع للمساعدات عن البعض الآخر .. و انكفائها على ذاتها .. ، و اندفاعها الى تكديس معداتها الطبية في مخازنها تحسبا لأي طارئ .. ؟ ، و في اي اطار يفهم العالم ما يتردد في الاعلام من قرصنة رسمية لبعض الدول على معدات غيرها ( مصادرة التشيك لشحنة كمامات موجهة من الصين إلى ايطاليا ، و اعلان وزير التجارة التونسي عن سرقة الايطاليين في عرض البحر لباخرة كانت متجهة إلى تونس محملة بالكحول الطبيّة ) ؟ ، ألا يعتبر الإغلاق المطلق للحدود بين الدول ، و وقف كافة اشكال الإمدادات في ظرف حرج كهذا خرقا لثقافة التضامن بين الشعوب و الأمم .. و خذلانا للدول النامية و تخليا عن نجدتها في أحلك الاوقات ؟ ألا يحتاج العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى التشاور و التعاون و الترابط لدرإ هذا الخطر المشترك ؟ ألم يكن في مكنة الدول العظمى أن توظف ما لديها من تفوق و قدرات تكنولوجية لإبتكار حل ابداعي يقيم عزلا مرنا بين الدول يجمع بين تأمين الصحة العامة و الإبقاء على ما تستدعيه مقتضيات اللحظة من تعاون و تضامن ؟ خاصة إذا ما استعرنا منطق المصلحة الحاسم في أن زوال خطر الاوبئة عن أي بلد يقوم عند اجتثاثه عن غيره من البلدان .. و طالما أن حرائقه لا تزال مشتعلة في اي بلد مهما كان بعده جغرافيا و مهما كانت عزلته و انعزاله فإنه لا أمان منها .. ، اذ قد تطير جذوة من حرائقه فتذكي لهيبا في دولة أخرى .. و يضرم شهاب منه نارا في جهة أخرى ..

ان الأخلاق السوية تمج ما ينتشر في هذه الآونة من اسراف في النكت و الفكاهة و الدعابة و كأن البشرية في ظرف عادي ، و المتحتم الاستعاضة عن ذلك على المستويات الفردية بمشاطرة المرضى و ذويهم مشاعرهم .. و مقاسمتهم آهات الالم و اوجاع التوعك و الاعتلال .. ، و بطرق ابواب السماء و الابتهال و التضرع بالدعاء لخالق الداء لكشف الضر و ازالة البأساء .. ، كما تقضي حساسية الوقت قدرا من الجدية في تعاون خبرات العالم و توجهها مجتمعة و بصورة مكثفة إلى المخابر و الدراسات و مضاعفة الجهود للوقوف على أسرار هذا المرض العضال سبيلا لإكتشاف ما يلزم له من دواء .. بدل انفراد كل دولة بجهدها لتستأثر وحدها بالأرباح الناجمة عن اكتشاف قد يطول وقته و قد يعز عليها بمفردها .
و إلى أن يحين ذلك فإن الواقع الماثل في الحال يدعونا في منكبنا البرزخي إلى التحلي بالمسؤولية و التقيد الصارم بتوجيهات الضبط الوقائي المعلنة من الجهات المختصة .. ، و اتخاذ الحيطة و التخلي عن أي استهتار أو تردد في هذا السبيل من غير تهويل و لا تضخيم .. ، ذلك أنه قد تعين علينا أن نواجه هذا الوباء في بلدنا بوسائلنا و بإمكاناتنا الذاتية .. و قد شاهدنا آثاره المأساوية و مخالبه الضارية و نتائجه المنهكة في البلدان المتقدمة .. و التي لا تزال رغم ما لديها من جاهزية أعلى منا مشدوهة حائرة عاجزة عن مواجهته .. ، و لن نكسر شأفته إلا بفضل الله سبحانه و تعالى ثم بالنظافة و بالعزل الطوعي كتوصيتين نبويتين .. ، فضلا عن ما أفادت به التجارب و الأبحاث العلمية من فعاليتهما في لجم المرض .. ، كما تجب العناية الرسمية و الاهتمام الشعبي بشرائح واسعة منا أقعدها حظر الحركة المقرر للحماية من انتقال العدوى عن مزاولة أنشطتها .. او تأثرت بسببه .. ، فالتخاذل عن نجدتهم و امدادهم بما يحتاجونه يوميا اضاعة للواجب و تضييع للأخوة .

إن محنة كورونا لم تقتصر آثارها فقط على تكبيد العالم خسائر في الأرواح .. و لا على طحنها للاقتصاد العالمي .. بل إنها أبانت المستور من الأخلاق ، اذ كشفت علنا هشاشة و ضعفا في بعض السلوكيات .. ، و اجهزت بصورة مذهلة على العولمة التي كانت و الى حد قريب اكثر الأغاني صخبا و ضجيجا .. و أسوأ الذرائع للنيل من سيادات الدول و قهر خصوصياتها الحضارية و التاريخية بحجة ثنائية الضعف و التفوق و الحاجة إلى التعاون ..

سينكشف الأسى قريبا ان شاء الله تعالى و سترتفع غيوم الترح و الجوى عن الأرض و الانسان .. ، و سيكتب التاريخ في دفاتره زلل النهم و خيبة الجشع لدى بعض التجار . . ، و ستحكي مدوناته عجز التجبر و التطاول عن بناء حضارة تطبعها المسؤولية الاخلاقية .. ، و ان تجريد المواقف من المثل .. و تعريتها من الاخلاق هو الفشل و الخسران الذي يحبط قيام التضامن بين الافراد كقيمة سلوكية مثلى .. و يعرقل قيام نظام عالمي تسعد فيه البشرية بالتضامن و التعاون في حضن المدنية الحقة .. و في كنف حضارة صلبة لا تتهاوى اعمدتها تحت القصف و الأعاصير .. و سيسفر ليل الأزمة عن شروق فجر جديد يشهد فيه العالم نظاما مختلفا في التراتبية و في نمط الثقافة و التنظيم … ستتراجع دول عن مكانتها و ستتقدم أخرى .. ، فالمحن التي لا تقتل تقوي .. و الشدائد تصنع العظمة و التفوق .. ، سينقشع هذا الدخان عن تشكل نظام عالمي جديد يستند على منطق مغاير لما كان سائدا في مجالات الأمن و الاقتصاد و السياسة و الاجتماع .. ، فالتهنئة لدولة الصين الشعبية على تصدرها للمشهد القادم .. و ألف تحية لكل دول عالمنا العربي و الإسلامي الذي برهن في هذا الظرف الخاص على قدرات عالية على التحرك السريع الناجع و الانضباط في جميع الخطوات مع ايقاع المسؤولية الاخلاقية و المآثر الحسنة ..
و لا شك أن تبوأ المكانة اللائقة في مرحلة ما بعد الكورونا مرتبط في شق منه بهذه النجاحات ، و في الشق الآخر بجودة الاستعداد للحد من آثارها السلبية .. ، و دولنا بلا شك ستحسن الخروج كما أحسنت الدخول بفضل الله سبحانه و تعالى .. ، فانتهاجها لمسالك الجدية و الصرامة في المعترك الحالي كاشف عن جلال لهفتها و عظمة تطلعها لحوز الظفر و الانتصار .. ، فضلا عن ما يعطيها الموقع و التاريخ و يمنحها الاقتصاد المتنوع من فرص واعدة في هذا الاتجاه .. و لا حدود للطموح و لا نهاية لسقفه طالما ان الإرادة قائمة و العزم ناهض ..

القاضي آدو ببانه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى