عاد الحديث مجددا عن استعجالية تنظيم حوار سياسي جامع بين ” الخُلَطَاءِ السياسيين” الوطنيين ابتغاء وضع الضوابط القانونية و التنظيمية الضامنة لتنظيم الاستحقاقات المقبلة -سواء كانت سابقة أو منتظِرة لأوانها- بشكل نقي نظيف “فوق الشبهات” يَسُرُ المغلوبين و الغالبين علي حد سواء و يمثل قطيعة قوية مع ظاهرة مقاطعة الانتخابات من طرف بعض الفاعلين و التشكيك في نتائجها من طرف بعض المشاركين.
و سبق لي مرات عديدة أن نبهت من جهة إلي ضرورة خفض المعارضة الوطنية لسقف طموحها إلي الرقي بالنموذج الديمقراطي الوطني أخذا في الاعتبار “الحالة الديمقراطية العربية شديدة الاضطراب” و رفع الموالاة لحجم تنازلاتها من أجل “شراء ثقة” الطيف الوطني المعارض من جهة أخري؛ كما أشرت مرارا إلي الشروط الكفيلة بصحة الحوار التي إن التأم بدون توفرها يكون قد سلك طريقا غير مضمون النتائج و ها أنذا “أُكَرِرُهَا”(بِمَعْنَيَيْ الإعادة و التصفية و التنقية) علي النحو التالي:-
أولا: حصرية الحوار علي الشأن السياسي فقط: لا أظن أن أحدا من رُشَدَاءِ البلد يجادل في أن الهدف الأكبر للحوار المنشود هو ” اتخاذ الضمانات القانونية و التنظيمية و الأخلاقية الكفيلة بتكافؤ تام لا شِيًةَ فيه لفرص كافة الفاعلين السياسيين في الاستحقاقات الانتخابية، تكافؤ يهنئ فيه المغلوب الغالب راضيا مقتنعا و متطلعا إلي فرصة أخري”.
و إذا تمهد ذلك فيتعين حصر الحوار السياسي المرغوب على الشأن السياسي و “الشأن السياسي ذي الطابع الانتخابي” بما يضمن التحقيق الكامل للهدف المبين سابقا؛ و تعتبر أية إضافة لمواضيع غير ذات صلة بالموضوع السياسي انحرافا عن الطريق المستقيم المفضي إلي تحقيق الهدف المطلوب مما قد يؤدي بالحوار إلي “طريق مسدود”.
ثانيا: إسناد ملف الحوار إلى “الدرجة الأولي” من الخلطاء السياسيين: يكاد يكون من المتواتر أن من أهم شروط سلامة الحوار و بلوغه مراميه أن يكون ممثلو شريكي أو شركاء الحوار السياسي المتشاكسين من “الدرجة الأولي” و أن يكون عددهم محدودا(ممثل أو ممثلان لكل طرف) حتى يطمئن ذلك الرأي العام و أطراف الحوار السياسي نفسه بأن الأمر في غاية الجدية و المحورية و الاستعجال، وبعيد كل البعد عن “الاستعراضية” و” الغخراجية” و “الكرنفالية”…
ثالثا: “الخُلُوُ من “مواد تمييع” الحوار”: و المقصود هنا هو ضرورة الابتعاد عن ما هو ملاحظ من محاولة إدراج ملفات قطاعية، دعائية أو كيدية في خانتي ممهدات الحوار أو مواضيعه – و إن كان منها ما قد يرقي فعلا إلي مرتبة الشأن الوطني- و لكن عمومها أقرب إلي التصنيف في خانة “المُسَهِلاَتِ المُصَاحِبَةِ” منها إلي مكانة الكليات ذات التأثير المباشر علي تحقيق الهدف الأسمي المرسوم للحوار.
رابعا: تفادي إغراق الحوار: لعل أهم ما يساعد علي سلامة الحوار المرغوب من المطبات و العثرات هو تفادي إغراق الحوار السياسي بمواضيع كبيرة شديدة الحساسية، “كمراجعة أو تحيين العقد الاجتماعي” و ” تحصين الوحدة الوطنية” و ” أولوية اللحمة الاجتماعية” و ” إشكالية الهوية الأحادية أو التعددية” و “عُضْلَةِ التوازن المناطقي”،…ذلك أن هذه المواضيع شديدة الحساسية و تتطلب معالجتها مناخا سياسيا هادئا و طبيعيا و أوزانا سياسية محددة مُعْتَرَفًا بها تمثل مخرجات عملية ديمقراطية نقية نظيفة و طاهرة.
فمن غير المعقول مثلا معالجة هذه المواضيع البالغة الحساسية في ظل مناخ سياسي تتساوي فيه أراء أحزاب سياسية ذات تمثيل برلماني وبلدي أو ذات رصيد نضالي و جماهيري معتبر مع أحزاب أخري لن يتسني لها في حال تنظيم انتخابات توافقية نظيفة حسيا و معنويا الحصول علي أي مقعد برلماني و لا بلدي ذلك أن بعض الأحزاب عندنا بقطبي الموالاة و المعارضة لا تعدو كونها “ظواهر إعلامية” فحسب.
خامسا: تحديد السقف الزمني للحوار: من البداهيات اليوم في فن ” تسيير المفاوضات” أن يتم دراسة “الكلفة الزمنية” و تقديرها و تحديد سقف أعلى يتحتم التوصل إلى اتفاق قبله و ما لم يتم ذلك تكون المفاوضات نوعا من الترف الفكري و الرياضة الذهنية و “المراء السياسي” و قتل “نفس الوقت” التي حرم الله…!!
و تفيد التجارب السياسية أن من أكثر العوامل إفشالا للحوارات السياسية عدم تحديد سقفه الزمني حيث يؤدي ذلك إلي تخصيص الكثير من الوقت للتفاصيل و الجزئيات المسكونة عادة بالشياطين و إلى فتح ” صندوق الباندورا”: “صندوق الشرور” الشهير كما في الميتافيزيقا الإغريقية(Boite à pandore/Pandora’s box) كما يفضي إلى التسويف من بعض الأطراف تحينا لمواسم “رواج سياسي” لهم أو “كساد سياسي” لمحاوريهم.!!
وتأسيسا عليه يتعين تحديد سقف زمني أعلي للحوار اعتبارا لحصرية الموضوعات محل النقاش و التي يمكن الإحاطة بها في وقت معقول و مقبول و نظرا أيضا لاستعجال الموريتانيين لتطبيع المشهد السياسي و إنهاء حالة الاستقطاب السياسي غير المبررة في بلد ذي عمق عربي و إفريقي ملتهب جيوسياسيا و ذي تركيبة اجتماعية داخلية متعددة ومتنوعة داخل التعدد و تحتاج إلى مراجعات عميقة مُجَدِدَةٍ متأنية و رشيدة مسبوقة بإجماع سياسي رصين،مكين ،حصين، و متين.!!
المختار ولد داهي ، سفير سابق