الوظيفة العمومية في بلادنا هي الإطار القانوني والتنظيمي الجامع والناظم لمجموع الأشخاص العاملين بالإدارة العمومية وفي دول أخري يتسع هذا الإطار ليشمل كافة الأشخاص العاملين بالمرافق العمومية والمرافق ذات النفع العام. ويتم تسيير منتسبي الوظيفة العمومية ببلادنا وفقا لقانون يحدد النظامَ الأساسي لوكلاء الدولة وتنص بعض مقتضياته علي وجود أنظمة أساسية استثنائية تحكم تسيير منتسبي بعض الأسلاك ذات المهام الخاصة.
و تنقسم الوظيفة العمومية إلي نوعين “وظيفة عمومية دائمة”Fonction Publique de Carrière كما هو المعمول به في فرنسا وهي عبارة عن تأمين مركز وظيفي دائم للموظف العمومي طيلة “العُمُرِ المِهَنِي” و “وظيفة عمومية حسب الحاجة”Fonction Publique d’Emploi و تعني اشتراط استدامة الوظيفة بوجود الحاجة إلي المهمة الوظيفية كما هو متبع بالولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا؛ و لقد ظلت بلادنا تعتمد النموذج الفرنسي إلي أن تم السنة الحالية إدخال تعديلات علي النظام الأساسي لوكلاء الدولة سمحت بترسيم وظيفة عمومية بتسارعين: وظيفة عمومية غير دائمة (حسب الحاجة) و وظيفة عمومية دائمة.
و قد تم اعتماد بلادنا مؤخرا لنظام “الوظيفة العمومية حسب الحاجة إلي المهمة الوظيفية” ضَمَانًا لإضفاء مزيد من المرونة و العصرنة علي الوظيفة العمومية من جهة و “إِفْتَاءً” بخصوص “نَازِلَةِ” التعامل مع بروز “وظيفة عمومية موازية غير شرعية” مؤلفة أساسا مما يعرف “بالعمال غير الدائمين” Personnel Non Permanent (PNP1) و “حصاد التعيينات السِيًاسَوِيةِ” من خارج أسلاك الوظيفة العمومية Produit des Nominations Politiciennes(PNP2).
و يَحْكُمُ الموظف العمومي طيلة عمره المهني مجموعةٌ من القواعد القانونية و المساطر الأخلاقية و الضوابط المرجعية و التقاليد الإدارية و “إيحاءات الذوق السليم”،… التي تضبط مساره المهني تكوينا و تأهيلا و تدرجا تصاعديا و ترقية و تَنْحِيًةً و التزاما بواجب التحفظ و تَقَيثدًا باحترام السر المهني و علاقاتٍ برؤسائه و مرؤوسيه…
وباستثناء المنتسبين لقطاعات قليلة تحكمها أنظمة أساسية استثنائية Statut Particuliersكالقضاء و أساتذة التعليم العالي و الإداريين المدنيين،… فإن المسار المهني للموظفين و الموظفين السامين خصوصا يعرف نوعا من ” الهَرَجِ الإِدَارِيِ”: صعودٌ و هبوطٌ، عُرُوجٌ و نُزُولٌ و ارتفاع و انخفاض -تمَامًا كَأَسْنَانِ المِنْشَارِDents de -Scie/ Sawteeth و فُشُوٌ للزبونية و المحسوبية و “السِيًاسَوِيًةِ” و غيابٌ تام للمِعْيَارِيًةِ حتي سَاسَ و سَادَ و قاد الموظفين السامين في بعض الأحيان المشهودة المعلومة و المتكررة و في قطاعات عديدة و خلال فترات سياسية مُتَعَاقِبَةٍ أدناهم رتبة و أضعفهم كفاءة و أقلهم استقامة و “أَخَفُهُمْ أخلاقا”…
و يُرْجِعُ بعض المُختصين ظاهرةَ “مِنْشَارِيًةِ” المسار المهني لكبار الموظفين إلي عدة عوامل منها:-
أولا: خَنْقُ الموهبة و التميز الوظيفي: تشكل رُوتِينِيًةُ و رَتَابَةُ و جُمُودُ العمل الإداري عندنا عوامل طاردةً لأصحاب المواهب النادرة و الذين يغادرون الوظيفة العمومية باكرا نظرا لعدم توفر “سَلاَلِمَ” و طرق سريعة للصعود المهني عبر المُغَالَبَةِ و المُسَابَقَةِ و الاستحقاق علي غرار ما هو حاصل بالعديد من دول العالم التي تنظم مسابقات مهنية داخلية سنويا تستكشف و تكافئ المواهب النادرة و تسمح لها بالتًفَتُقِ و الإنْتِشَاِء و العَطَاءِ…؛
ثانيا: غيابُ مكافأة الاستحقاق :يُلاحَظُ علي نطاق واسع غياب تام لسجلات متابعة و تقييم الاستحقاق و التي تسمح مثلا بمكافأة الموظفين الذين دخلوا الوظيفة العمومية جِهَارًا عبر أبواب المُغَالَبَةِ و المسابقة لا خِلْسَةً عبر منافذ “السِيًاسَوِيًةِ” و المحسوبية و “الشِرَائِيًةِ”…، كما تُكَرِمُ الموظفين “القابضين علي جمر الاستقامة المالية و الأخلاقية” و المواظبين علي احترام و خدمة المواطن و المُراجع و تُجَازِي أولئك ” الخُدًامِ العموميين” الذين واصلوا أثناء مسارهم المهني تحصيلَهم العلمي و المهني فحصدوا أعلي الشهادات و أكبر المقامات من أَعْتَي المدارس و الجامعات…
ثالثا: عدم تَوْقِيرِ التجربة و “الشًيْبَةِ المِهَنِيًةِ”: أدي غياب تسيير استباقي للكفاءات و التجارب إلي تفشي ظاهرة عدم تثمين الكفاءة و غياب أي تشجيع أو تكريم للتجربة المهنية الطويلة و الراسخة فلا يَقِفُ شَعًرُ رَأْسِ أي مراقب إذا ما تم “إِتْبَاعُ و إخْضَاعُ” موظفين راسخين في التجربة إلي قيادة موظف أقل رتبة و أَصغر “سنا مهنيا”!! كما لا يستغرب أحد من عدم إعطاء الأسبقية في التعيين في الوظائف السامية “المُدِرَةِ للرًوَاِتِبِ المِلْيُونِيًةِ” للخُدًامِ العموميين أُولِي الكفاءة المُزَكًاةِ و التجربة الطويلة الراسخة و الذين هم “قَابَ عَامَيْنِ أَوْ أَدْنِي” من الإحالة إلي التقاعد الذي يعتبره العديد من الموظفين لأاسباب تستحق الدراسة و التصحيح ” “المَوْتَةَ الأُولَي”.
و الأمل عريض ومعقودٌ علي الفريق الممسك بملف الوظيفة العمومية حاليا: وزارةً و أمانة عامة و ديوانا و إدارة عامة و أعوانا نظر لما هو متواتر عنهم من الكفاءة و القوة و الأمانة في تصحيح الاختلالات المتراكمة التي طبعت تسيير الموظفين العموميين و أَوْكَدُهَا إعداد مساطر قانونية و تنظيمية واضحة عادلة تضبط تسيير المسار المهني للموظفين ابتغاء تكريمُ و مكافأةُ و رفعُ الحيف عن أصحاب الكفاءة الفريدة اللًمًاعَةِ و رواد التجربة الطويلة الوَضًاءَةِ…
المختار ولد داهي ، سفير سابق