قد يكون من سوء طالع الطبقة السياسية في موريتانيا أن تُعايش على مدى نصف قرن مجموعة من الأنظمة التي توزعت بين “المدني” و”العسكري” و”نصف المدني”، وأن تقبل -مكرهة في الغالب- بهذا التعايش، وبالطريقة التي تريدها هذه الأنظمة، إذ أن الطبقة السياسية لعبت على مدى نصف القرن الماضي، دور المتلقي دائما، لاهي في العير ولا في النفير كما يقال. هذا التاريخ الطويل من “المساكنة” ولد حالة من الخنوع لجميع الأنظمة تحت مبررات واهية رغم بريقها اللماع، وهكذا نجد أنه في الفترة الممتدة من 1973 وإلى 2005 تفنن حكام موريتانيا على اختلافهم في جلد الطبقة السياسية، بوسائل تختلف باختلاف الأزمنة والظروف، فمن السجن إلى النفي والقتل والحصار… إلخ وعلى مدى حقب متتالية لم تستطع هذه النخب تسيير مظاهرة شعبية علنية واحدة للتنديد بما يحصل، أوالدفاع عن حقوق المعتقلين أو التحقيق في ظروف من ماتوا تحت التعذيب في أطار والزويرات ونواكشوط وكيهدي…إلخ.
هذا الواقع الذي فرضته الأنظمة على النخبة السياسية، هو الذي أدى بها للإفلاس السياسي، وأظهرها عاجزة ليس عن إحداث التغيير فحسب بل حتى عن المشاركة فيه او أخذ العلم به دقائق قبل أن يحصل، ولعلنا نتذكر جميعا كيف واجهت هذه النخب محاولة انقلاب 2003 الفاشلة، وكيف لم يجرؤ أي منها على التواصل مع وسائل الإعلام العالمية أثناء وبعد المحاولة الانقلابية..
لقد اغلق الجميع هواتفهم في انتظار معرفة لمن ستكون الغلبة، وبعد انقشاع المعركة وظهور ولد الطائع على الشاشات الصغيرة، تبارت الأحزاب والتنظيمات المعارضة قبل الموافقة في إصدارا البيانات وإدانة العنف والبراءة علنا من أي تغيير يحصل بالقوة..! كانت مهزلة فعلا..
مر عام بعد عام، وجاء تغيير الـ03 أغسطس 2005 والمفارقة أنه تم دون علم هؤلاء جميعا، لكنهم هللوا له عن بكرة أبيهم، وصبوا لعناتهم على النظام البائد، وخرجوا للشوارع في المسيرات المؤيدة من “فصالة” إلى “كرمسين”..
تم إدخال تحسينات على المسلسل الديمقراطي، عبر إصلاحات دستورية مثلت منعطفا في المسار السياسي للبلاد، و رفعت السوط عن ظهور الساسة، ونزعت الأشرطة اللاصقة عن أفواههم، وحررت الصحافة والشارع وكل ما يخطر على البال، وطبعا لم يكن للسياسيين دور في ما جرى ويجري أمام أعينهم..
تغيرت الموازين، وتبدلت الأحوال، ونسي البعض من يكون وكيف كان، وطفق يتشدق بعبارات المكاسب الديمقراطية والنضال السياسي، وغيرها.. وراحوا يذرعون الشوارع للمطالبة برحيل النظام، في مشهد مثير للشفقة، وعلى مدى سنوات ثلاث.. كان “الرحيل” تقليدا “ببغاويا” لمشاهد تنقلها القنوات الفضائية من خارج الحدود، لشعوب وأنظمة لها ظروفها وخصوصياتها ونخبتها التي تختلف عن ببغاوات ساحة ابن عباس. المفارقة أن هؤلاء كانوا يطالبون برحيل نظام أوجدهم من لاشيئ، وحين يتحول اللاشيئ إلى شيئ فكبر أربعا على الدنيا بمن فيها.. أفلس خطاب الرحيل، ومن قبله أفلست المشاريع السياسية التي قدموها للناخب الموريتاني في يوليو 2009..
ومع كل إفلاس يحاول هؤلاء تجديد جلودهم على طريقة الأفعى، فيبتدعون خطابا جديدا بمطالب وممهدات وشروط جديدة.. هم اليوم يريدون الحوار، لكنه حوار يجب أن تتجسد نتائجه واقعا على الأرض قبل أن يبدأ.. (دنيا وفيها العجائب).
أطلق الرئيس في مدينة شنقيط دعوة للحوار الوطني الشامل دون قيد أوشرط مسبق، فقالوا إنهم لايثقون في الدعوة.. بمن ستثقون إذن إن لم تثقوا بأعلى سلطة في البلاد.. نكصوا على أعقباهم، وفيهم من يجيد النكوص.. تداعى الموريتانيون بعلمائهم، وشيوخهم وساستهم ونقابييهم ومنظماتهم الأهلية للملتقى التشاوري التمهيدي للحوار الوطني، وما تخلف غير المخلفين عن الركب دائما.
ثلة من المعتاشين على تأزيم الأوضاع وتصدير الأزمات، وانتظار “الفرج” عله يأتي على ظهر دبابة في الهزيع الأخير من الليل..
طبعا سيطول الانتظار، وستنطلق قاطرة الحوار الوطني، حاملة معها فجرا جديدا من الحرية والتعايش وترسيخ دولة القانون والمؤسسات..
أنذاك سيقول المخلفون كلاما غير الذي قالوا من قبل..
سيدي محمد ولد ابه