منذ التعديل الوزاري الجزئي الأخير الذي جاء دون توقعات وتطلعات المتطفلين على مائدة النفود والمال، طفقت بعض الأقلام تبشر بتعديل وزاري واسع وشيك تحدد مواعيد وقوعه كل بداية ونهاية أسبوع، وتذهب إلى حد التكهن حسب هواها بأسماء الوزراء المغادرين وأولئك الذين سيخلفونهم
في شغل مناصبهم. ولما طال انتظار ذلك التعديل، أخذت الأمور مجرى آخر، وبدأت التعليقات والتحليلات تنصب على البحث للتعديل “المستسقى” عن أسباب ودواع تجعله حتميا لا مناص منه ولا مراء فيه.
فبعد أن كانت المبررات والأسباب تدور لفترة حول ضعف أداء بعض الوزراء أثناء زيارات الرئيس لولايات الداخل، وتسريب مادة الفيزياء، وشغور منصب مفوض الأمن الغذائي المفاجئ، قفزت فجأة إلى أمور أكثر جدية وعمقا هي انقسام الحكومة الموريتانية إلى فريقين متناحرين يستحيل التعايش بينهما وهما أنصار الوزير الأول السابق وأنصار الوزير الأول الحالي؛ الشيء الذي يلزم رئيس الجمهورية بإنهاء هذه الثنائية ووقف هذا الصراع العبثي المدمر وتصفية أحد الجناحين لصالح الآخر، إذا كان يريد حقا خير للبلاد والعباد ونجاح برنامجه الانتخابي؛ وهذا هو بيت قصيد تلك الحملة ومربط فرسها. وهو ما يستوجب منا الملاحظات التالية:
أولا: أن زيارات وجولات الرئيس في ولايات الوطن رغم ما شابها من نواقص وأخطاء طبيعية، كانت مثمرة وإيجابية وآتت أكلها ضعفين؛ إذ مكنت من تحقيق منجزات ملموسة على الأرض لصالح السكان والوطن، وخلقت شيئا من الاتصال والانسجام بين الحكام والمحكومين، وقدمت للرئيس ووزرائه صورة حية عن حالة وواقع السكان والبنى التحتية، وليس من رأى كمن سمع. وقد أبلى الوزراء الحاضرون في الميدان – هم وقطاعاتهم- بلاء حسنا لم نعهده منذ زمن طويل؛ فقد كانوا على دراية لا بأس بها بقطاعاتهم، وبالميدان، وقدموا منجزات معتبرة على الأرض.. ولا أعتقد إلا أنهم نجحوا عموما. ولعل نجاحهم هو مصدر قلق بعض تلك الأقلام وما يجعلها تركز حملاتها المسعورة على أكثرهم نجاحا. ولا أعتقد أن من الحكمة إخراج اللاعب الناجح من الميدان وحرمان الفريق من مهاراته.
ثانيا: أن الدكتور مولاي ولد محمد الأغظف والمهندس يحي ولد حدمين مسؤولان وطنيان خدما بلادهما بإخلاص، ولا يمثل أي منهما العدو أو يشكل خطرا على البلاد، كما لا نعلم لهما ضلوعا في الفساد الذي هو عدو موريتانيا الأول، أو تواطؤا مع المفسدين أو مع القوى الأجنبية أو الإرهابية أو الفئوية التي تسعى جاهدة لتخريب الوطن. وبالتالي فإن استهداف أي منهما وتصفيته أو تصفية أنصاره أو بعضهم يعتبر تمزيقا للصف الوطني وإضعافا للحمته وتشجيعا للفوضى والاضطراب لا يخدم إلا المفسدين والأعداء الذين يغيظهم أدنى تقدم نحرزه على حسابهم. وهؤلاء الأعداء كثر ويوجدون بقوة في معسكري الموالاة والمعارضة. فينبغي إذن أن تكون الحكومة الموريتانية تمثل الطيف الوطني على أوسع نطاق ويجد فيها الجميع نفسه ويتقبل غيره ويتعايش معه في سبيل تحقيق الصالح الوطني العام.
ثالثا: وإذا رجعنا إلى تاريخنا السياسي القريب، فسنجد أن أهم المنجزات التي تحققت في البلاد إنما تحققت في ظل الحكومات الأوسع تمثيلا لمختلف أطياف المجتمع والمتعددة الأقطاب. فـ”قوة الوحدة” هي التي حملت الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله على تبني خيار الوحدة الوطنية في أول حكومة يشكلها، وعلى التشبث بذلك الخيار في مؤتمر ألاگ رغم مغادرة وزراء المعارضة البلاد وانضمامهم للمغرب. وكذلك على الاحتفاظ في حكومته أمدا طويلا بقطبين متناقضين على طول الخط هما أحمد ولد محمد صالح أطال الله بقاءه، ومحمد ولد الشيخ رحمه الله؛ واللذين قال فيهما وفي وحدتهما وصراعهما: “وإذا كان محمد ولد الشيخ تقدميا جدا إن لم نقل: ثوريا يحمل أفكارا سابقة على زمانه يصعب فهمها في سياقنا آنذاك، وتستعصي على بنياتنا الذهنية المنتمية للقرون الوسطى، فإن أحمد ولد محمد صالح على خلاف ذلك. فقد كان محافظا، ولكنه لم يكن رجعيا كما كان يوصف على الدوام. إنه حذر، يؤمن بحتمية وضرورة تطور مجتمعنا، ولكنه يفضل أن يتم ذلك التطور وتلك التحولات المترتبة عنه بطريقة بطيئة وأكيدة. ولم يكن “عدو السود الذي يريد أن تكون موريتانيا خالصة للبيضان فقط…” كما كان يصفه منافسوه السياسيون؛ إذ لو كان كذلك لما اتخذته يوما وزيرا ثم أمينا دائما للحزب. وبكلمة واحدة لم أكن لأجعله أحد أقرب أعواني على مدى سبع عشرة سنة.
أما بالنسبة لي فقد كنت أفهم كلا الرجلين وأجد نفسي من خلال كل منهما: فقد كانا يجسدان اهتماماتي فيما يتعلق بالمسار التطوري الذي ينبغي أن يؤول إلى بناء موريتانيا كما أحلم بها في قرارة نفسي.
ولكم كان تصادم فكريهما المتنافرين أمرا ثمينا بالنسبة لي، فهما جناحا طائر يحملان تياري الرأي السابقين ويمثلان الشعب الموريتاني بأسره. فقد كنت أكوّن رأيا موضوعيا ما أمكن عن مسألة بعينها وأتخذ في شأنها قرارا متبصرا اعتمادا على نقاشاتي مع أحد هذين الرجلين أو كليهما وأستوفي معلوماتي بأخذ آراء معاونين آخرين معنيين. وبكلمة واحدة فقد جسدا المثال الذي كنت أسوقه أحيانا لتهدئة تلهف الشباب وأحرك به ما أمكن جمود القدماء. إنه مثال حركة السيارة التي أشبّه بها تطور بلادنا. فإذا زاد السائق السرعة كثيرا يخشى من وقوع حادث خطير إن لم يكن قاتلا، وإذا ضغط على المكبح كثيرا يوشك أن لا تتحرك السيارة من مكانها؛ وهو أمر غير ممكن! إذ إن الحياة حركة، ومن لا يتحرك يضمر ثم يندثر. ولذا كان خير الأمور أوساطها، وإن كانت الوسطية لا ترضي أحدا في بلادنا؛ فالشباب يعتبرون أننا نراوح في مكاننا رغم أننا نسير بسرعة متوسطة، والقدماء يرون أننا نسير بسرعة جنونية قاتلة”. ثم بعد ذلك على الجمع بين جماعة التكنوقراطيين والمحافظين وحتى الكادحين في نظامه الوطني.
رابعا: أن العالم حولنا يمور ويغلي، والمنطقة تشتعل، والنعرات الطائفية والإتنية والشرائحية والجهوية تسعى لتفعل فعلها المدمر في مجتمعنا ودولتنا، ومن ورائها محركوها الحاقدون. وفي وضع كهذا يجب على السلطة الوطنية التي تقود البلاد إلى الإصلاح والخير والتقدم والحرية أن تصون وتعزز وحدتها وترص صفوفها وتوسع تمثيلها ولا تقصي إلا الفاسدين والمجرمين الذين يستحيل إصلاحهم، وتعتني بالكفاءات الشابة، وأن تتجه متحدة إلى محاورة من صلح من الطيف المعارض وإفساح المجال أمامهم للاشتراك في تدبير وتوجيه الشأن الوطني العام.
يجب أن تتجه البلاد إلى الانفتاح والوحدة، وليس إلى التقوقع والعزلة.