كيف كشفت تسريبات عسكريّة سريّة ألمانيّة حول أوكرانيا تراجعًا لحلف الناتو واعترافًا بصُعوبة هزيمة روسيا؟ وما هي التطوّرات العسكريّة والسياسيّة التي دفعت بهذا التحوّل؟ وهل قدّم كيسنجر طوق النّجاة وبإيعازٍ من بايدن؟
لم يُفاجئنا الجدل الدّائر حاليًّا في برلين وعدّة عواصم أوروبيّة حول تصريحاتٍ أدلى بها زيمتي ميلر أحد كبار المسؤولين في وزارة الدفاع الألمانيّة لمحطّة تلفزيون “ZDF” وأكّد فيها وجود اتّفاق سرّي بين دول حلف الناتو بعدم تزويد الجيش الاوكراني بأيّ أسلحة ومعدّات ثقيلة (دبّابات) وصواريخ وطائرات غربيّة حديثة.السّبب واضح ويتلخّص في أن الولايات المتحدة الأمريكيّة وزعيمة حلف الناتو تتجنّب أيّ حربٍ مُباشرة مع روسيا، وتعمل على عدم استِفزاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بما يؤدّي لدفعه إلى استخدام أسلحة نوويّة، كاملة، أو تكتيكيّة في حال تعرّضت قوّاته لخسائر كبيرة.أمريكا تُريدها حربًا بالإنابة، وليست حربًا مُباشرة تتورّط فيها، وهذا ما يُفسّر تحذير هنري كيسنجر وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق من إلحاق هزيمة بروسيا، وضرورة إقدام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على ضرورة تقديم تنازلات كبيرة من الأراضي الأوكرانيّة إلى روسيا، وذلك في خطابه المدروس بعنايةٍ الذي ألقاه قبل أيّام في مُنتدى دافوس، في إشارةٍ إلى إقليم دونباس في جنوب شرق أوكرانيا، والاعتراف بالسّيادة الروسيّة على شبه جزيرة القرم.ما أراد كيسنجر قوله، ولكن بأُسلوبٍ دبلوماسيّ، أن حلف الناتو، ودوله، لن تستطيع هزيمة روسيا وحتى لو امتلكت القُدرة فلن تكون هذه الهزيمة في مصلحتها ويُريد تجنيبها كارثةً كُبرى على أيدي زعيمها بوتين، والمخرج الأكثر أمنًا والأقل كُلفةً هو الانخراط في مُفاوضاتٍ للتوصّل إلى حلٍّ سياسيّ، ومثلما أنقذ كيسنجر “إسرائيل” من الهزيمة الكُبرى في حرب عام 1973 من خلال مُفاوضات وقف إطلاق النّار، يُريد الآن إنقاذ أمريكا وحُلفائها بحثهم جميعًا على الانخراط في مُفاوضات مع روسيا، وهذا ما يفعله حاليًّا كُل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمُستشار الألماني أولاف شولتز من خلال اتّصالهما اليوم السبت بالرئيس بوتين وإقناعه بضرورة الدّخول في مُفاوضاتٍ مُباشرة وجديّة، مع نظيره الأوكراني زيلينسكي في أسرعِ وقتٍ مُمكن.من المؤكّد أن الرئيس الفرنسي ونظيره الألماني قدّما ضمانات وصفقة سياسيّة مُغريتين للرئيس الروسي، للقاء زيلينسكي، أبرزها التّجاوب مع كُل أو مُعظم مطالبه الاستراتيجيّة وأبرزها عدم توسيع عُضويّة حلف الناتو، والتّنازل عن إقليم دونباس لروسيا، وفرض حياد أوكرانيا ويبدو أنهما توصّلا إلى قناعةٍ بأن هزيمة روسيا مُستحيلة وباهظة التّكاليف، والعُقوبات الاقتصاديّة فشلت وأعطت نتائج عكسيّة، وتطوّرات المعارك على الأرض الأوكرانيّة تَصُب في مصلحة القوّات الروسيّة.زيلينسكي أدرك أنه جرى استخدامه كأداةٍ لخدمة مصالح أمريكيّة بحتة، وأن بلاده تدفع الثّمن غاليًا من وحدتها الترابيّة، وأمنها واستقرارها، ولهذا صعّد من عويله وتجرّأ على اتّهام حلف الناتو بخُذلانه وشعبه، وعدم تقديم المُساعدات العسكريّة الضروريّة اللّازمة للتصدّي للقوّات الروسيّة.المسؤول الألماني ميلر قال الحقيقة، وكشف المستور بناءً على اتّفاقٍ مُسبق مع سكرتاريّة حلف الناتو وقيادته في بروكسل، للضّغط على زيلينسكي بالجُلوس إلى مائدة المُفاوضات مع الرئيس بوتين وتقديم التنازلات الترابيّة والاستراتيجيّة تجاوبًا مع شُروطه، فمِثل هذه التسريبات الحسّاسة لا يُمكن أن تصدر إلا باتّفاقٍ مُسبق مع دول حلف الناتو والحُكومة الأمريكيّة.أوروبا المُتضرّر الأكبر من هذه الحرب بعد أوكرانيا، باتت على استعدادٍ فيما يبدو لرفع الرّاية البيضاء، وتبحث عن مخرج سريع، ولعلّ كيسنجر قدّم لها طوق النّجاة الذي تُريده.
“رأي اليوم”