أثار المنشور الأخير الذي كُتب هنا حول البروفيسور فّال عينينا شعوراً لدى الأصدقاء الفيسبوكيين من الجيل الجديد بالفضول والرغبة في التعرف على هذه الشخصية العلمية الوطنية الثمينة، كما أثار مزيجاً من مشاعر التقدير والشوق لدى كبار الأصدقاء من معارف الرجل وزملائه القدامى. لذا ارتأيت أن أعيد نشر حادثة طريفة وقعت بينه وبين الرئيس البرازيلي السابق، كنت قد كتبت عنها هنا، استجابةً لهذا الشوق وذلك الفضول.
فّال عينينا: البرازيل وتفاعلات «شرق -غرب» الموريتانية
——————————–
في منتصف التسعينيات كان فّال عينينا، السفيرُ المقيم لبلادنا في واشنطن، يقدِّم أوراقَ اعتماده كسفير غير مقيم في البرازيل، ضمن مجموعة من السفراء الجدد في العاصمة برازيليا، وخلال وقفة قصيرة مع الرئيس «فيرناندو أنريك كاردوسو» سأله: يا دكتور، أنت قادم من الولايات المتحدة، وحسب علمي فإنك اسم مشهور في الأوساط الأكاديمية هناك، قبل أن تصبح سفيراً لبلادك، لذا أحببتُ أن أعرف منك كيف ينظر الأميركيون إلى البرازيل؟ كان السؤال مفاجئاً لـ«فال»، لكنه رد بنباهته المعهودة: يتداول المفكرون الاستراتيجيون الأميركيون مقولةً مفادها أن «البرازيل ستظل تنشد التقدم وتسعى إليه دائماً». وكان لهذه المقولة شطر مكمِّل نصه: «.. لكنها لن تبلغه ولن تحققه»، إلا أن «فال»، لِما اتصف به دائماً من لباقة وحنكة وصدق، لم يشأ إيراد ذلك الشطر المتمم. فتفاجأ الرئيس بالمقولة وبكمِّ الصور النمطية الذي تختزنه عن بلاده، والتي اتضح من ردة فعله أنها ربما تَطرُق مسامعه لأول مرة، فازداد اهتمامه بـ«فّال»، واقترب منه مستفهِماً: هل لديك وقت لنتغدى معاً اليوم قبل عودتك إلى واشنطن؟ فرد فال: بكل سرور يا فخامة الرئيس. وعلى مائدة الغداء دار نقاش طويل حول المقولة الأميركية المذكورة آنفاً، بين فال والرئيس البرازيلي ووزرائه ومستشاريه الحاضرين. ثم وجّه الرئيس «كاردوسو» سؤالا لضيفه الموريتاني: وماذا تعني لك شخصياً البرازيل؟ فقال «فّال»: البرازيل بالنسبة لي تعني أشياء مهمة وكثيرة، يحضرني منها حالياً الآتي: حين كنت مراهقاً شغوفاً بكرة القدم، وكنتُ مولعاً باللاعبين البرازيليين مثل بيلييه وزيكو وجيلما سانتاوس.. كانت برازيليا بالنسبة لنا واحدة من أكبر عواصم كرة القدم في العالم. أما في شبابي فقد أصبحت البرازيل تعني لي شيئاً ذا أهمية استثنائية في تاريخنا الوطني. فقد كانت أهم التغيرات والتفاعلات في بلادنا على امتداد تاريخها تتم على محور الحركة «جنوب -شمال»؛ فمن الشمال جاء الإسلام واللغة العربية، ونحو الشمال انتقلت الدولة المرابطية لتؤسس مراكش عاصمةً لها. وعلى مدى قرون كان النشاط التجاري متمثلا في تجارة القوافل الصحراوية يجري عبر محور الشمال والجنوب، وحتى التجارة الأطلسية كانت تتم أيضاً وفق المحور ذاته تقريباً، وكانت معظم قوافل الحجيج تسلك المحور ذاته شمالا. وحين دخل الاستعمار الفرنسي في بداية القرن العشرين دخل أساساً من الجنوب متمدداً باتجاه الشمال، ليمثل دخولُه نقطةَ تحول وبداية تغيير كولونيالي عنيف وواسع في حياة البلاد. وبعد خروج الاستعمار ونيلنا الاستقلال السياسي عام 1960 بقي استقلالنا منقوصاً لأسباب كان أهمها انعدام التواصل الكافي بين غرب البلاد وشرقها، وكان الانشغال الأكبر لدينا في ذلك الوقت هو التغلب على هذا التحدي الذي فرضته وعورة التضاريس الشاسعة وانعدام الإمكانيات المالية واللوجستية الكافية، إلى أن تولّت شركة «ميندز» البرازيلية في منتصف السبعينيات بناء طريق «الأمل»، فكان «شريان حياة» جديد وأهم وأضخم مشروع في تاريخ بلادنا، إذ مثّل بطوله الممتد على مسافة 1100 كم أول وسيلة ربط لتعميق وتوسيع التفاعلات بشكل غير مسبوق على المحور «شرق -غرب»، بعد أن كانت كل تفاعلاتنا تقريباً تجري على المحور «شمال -جنوب».. لذا ما أن يَذكر الموريتاني المعاصر ذلك المشروع البنيوي الطرقي الضخم الذي كان له كبير الأثر في حياتنا، حتى يذكر على الفور اسم البرازيل واسم شركة «ميندز» البرازيلية وإنجازها الرائع.
محمد المنى