إن من أقدار حياة الأمة، ومن أقدار الجغرافيا ، أن دمشق لا تسقط في يد ( حراك موال للصهاينة، أو ممول من طرف محور يدهن إليهم)، إلى أن ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ب(المنارة البيضاء شرقيها)، فيجرى الله على يديه تحرير عقول الأمم( شرقا وغربا) وتحرير الأرض من (سغب) الجوع ، ومن (شحناء) كل أنواع الكراهية والفتن.
تلك خلاصة حررتها في رسالة تخرجي الجامعية التي كانت تحت عنوان (الجهاد في سبيل الله ماض إلى قيام الساعة) سنة1989. وفي إحاطة عند اندلاع الحرب السورية 2011
واذا كانت دمشق عصية بسبب أمر تكويني كوني؛ فقد أظهرت مأساتها معجزة عاصمة عربية صمدت رغم احتلال هويات متعددة لتسعين بالمائة من أراضي بلدها .
دمشق كانت برهانا ساطعا على أن من الحلفاء من لا يتخلى عن حليفه بسهولة ومن المقاومين من يرد الجميل لمن أسدى لهم الدعم في حروب (دكت فيها ، دكا ، دكا ) “بيروت “، واحتل فيها (الجنوب)، واستبيح فيها “الأرز” وأهله الصامدون.
دمشق بمآذن مسجدها الأموي وبمدافن الصحابة والتابعين الكرام، تمثل مطلع 2019 أيقونة، أكدت فشل مشروع كبير اسمه (الشرق الأوسط الجديد).
مشروعا بدأ باحتلال آبار النفط والغاز في كل من الجزيرة والعراق، وشمع باستشهاد المجاهد صدام حسين وآلاف من أهل النبوغ والشهامة في أرض دجلة والفرات والشام.
لقد اندحر (مشروع الفوضى الخلاقة هذا )، مرة أخرى كما اندحر جيش”هولاكو” على أسوار عاصمة “سلطان العلماء ، وبائع الملوك وهازم التتار” المجاهد المجدد العز بن عبد السلام.
وتعتبر موريتانيا الجديدة، سباقة في التضامن مع سوريا
والمقاومة ، وزيارة الأحمدي لدمشق في النصف الأول من هذا الشهر ، تمثل عربون صداقة يبرهن على نصاعة هذا النهج وسلامة هذا الخيار.
لكن لماذا وقف أصدقاء سوريا معها بأناة وجزم ، رغم حروب الدعاية والثوار و رغم ثمان سنوات، من التدمير والحصار؟
إن اللبنانيين و العرب (النجباء ) اكتشفوا مبكرا أن المعركة في سوريا، ليست ضد الأسد ، أو ضد النظام.
بل هي لعبة تدمير ممنهج لقدرات بلد عربي محاصر منذ عقود ،و ابادة جماعية للمتظاهرين السلميين و الموالين على حد سواء.
يعتبر حضور إيران وحزب الله منذ أول يوم جليا ومبررا بحماية “محور المقاومة”.
وهم اليوم دون شك شركاء في النصر، وثماره ، ومستعدون باستمرار لدفع فاتورة المشهد برمته حاضرا ومستقبلا.
لكن لماذا ألقت روسيا بكل ثقلها في معركة دمشق ، ورفضت بقوة سقوطها؟
اكتشفت روسيا أن سقوط الاتحاد السوفيتي؛ كان بسبب نقص (المال والطاقة ) في بناء البنى الصناعية لها ؛ وتوجهت إلى (لغة الطاقة ) فأنشأت شركة (بروم ) الروسية لصناعات الغاز 1996م، واستوعبت الدرس ورفضت أن يتكرر، فلجأت إلى بناء المستقبل على أسس من أهمها التحكم في أنابيب الغاز (برا، وبحرا)، وتطوير تسع صناعات هي: ” تنويع مصادر وعائدات الطاقة ، و بناء أنظمة القرصنة الرقمية، وانتاج السلاح، ومركبات الرياضة، وشركات السياحة ، وجهاز التجسس بالطير والذباب الرقمي، وأقمار الفضاء، و وولوج تقنيات تحريرالاعلام”.
وإذا كانت قطر و الولايات المتحدة والسويد هي الدول الثلاثة المنافسة في الطاقة لروسيا اليوم، فإن روسيا تتربع على عرش هذه الصناعات التسع.
ألمانيا و تركيا هما القنطرتان الرئيسيتان لمختلف خطوط الغاز الخام، المتجه من روسيا إلى أوربا، سواء عبر بحر قزوين والبحر الأسود، وهما البلدان الأكثر ارتباطا بجيوش من السواح الروس وصناعاتها الجديدة تغزو أسواقهم.
ويبدو أكبر مخزون الغاز الخام بعد قطر، موجودا عبر مثلث (باكو_ تبسيلي_جيهان).
ولأن (نادي الغاز ومشتقاته) يتوسع ، فمن المتوقع 2019, أن يتجاوز منسوب موارده 420 مليار طن .
و تتدفق هذه الموارد إلى أوروبا، عبر شبكة معقدة من الأنابيب البرية والبحرية ، المنجزة والتي هي قيد الإنجاز في أفق 2022.
وتمثل خارطة الخطوط العابرة للبحار واليابسة مركز الصراع في القارات الخمس، بين الغزاة، والأنظمة الوطنية، وشركات التنقيب العالمية، خصوصا BP البريطانية و TOTALE الفرنسية.
ومن أهم الخطوط الناقلة لهذا السائل؛ المهم في تطوير البلدان ، والمتسبب في إشتعال حروب المحاور ، على سبيل المثال لا الحصر :
1 ) مشاريع خطوط الغاز الروسية الثلاثة المتجهة ، إلى أوروبا عبر البحر الاسود وعبر تركيا.
2 ) مشروع أنبوب الغاز الإسرائيلي البحري، المتجه إلى أوروبا عبر النمسا (2000كم) لسرقة الغاز السوري بالجولان، والفلسطيني واللبناني.
3) مشروع الغاز الأوروبي الموقع 2002 المسمى ( نابوكو)، الذي مولته المفوضية الأوروبية؛ وخططت له المنظمات الصهيونية، لبلقنة المنطقة العربية، الموقع بين شركات الغاز (النمساوية، البلغارية، المجرية، التركية، والرومانية) عبر بحر قزوين في اتجاه أوروبا، ويواجه مشكل امتلاك روسيا للملكية العقارية في بحر قزوين.
4 ) مشروع أنبوب غاز المغرب العربي من حقول الجزائر عبر طنجة باتجاه اسبانيا والبرتغال… وهو يواجه صعوبات الصراع الإقليمي.
5 ) مشروع أنبوب الغاز القطري عبر السعودية وسوريا وتركيا، اتجاه أوروبا، وهو مشروع “مني بالفشل بريا”، وتبحث قطر بحثا حثيثا عن بدائل عبر دعائم أساطيلها، جوا وبحرا ، بعد أن تعطل مشروع خط “الدلفين” بين قطر وعمان والإمارات للأسف.
6 ) مشروع أنبوب الغاز الروسي الإيراني العراقي عبر سوريا وتركيا إلى أوروبا، وهو إحدى دعامات الشراكة في “حلحلة الملف السوري” بين هذه الأطراف الثلاثة.
7 ) مشروع أنبوب الغاز الإقليمي البحري ” المغربي النيجيري” الذي يضم (بريا دولا مثل: بنين ، والتوكو، وغانا ) ويستغل المحيط الأطلسي بمحاذاة دول ( غرب افريقيا مرورا بالمياه الدولية لكل من السنغال و موريتانيا ) و هو يمر عبر اسبانيا وقد وقع عليه في11 يونيو 2018 بالرباط، ويبلغ طوله 5660 كلم.
ما هي متطلبات دخول موريتانيا (نادي الغاز)؟
لا يمكن دخول سوق الغاز العالمي وحروب محاوره، وشركات تنقببه، بمجرد حسن النوايا و بمجرد نصوص مكتوبة.
تسمعون الجدل القوي، الدائر في دكار ، حول المفاضلة بين عروض شركات التنقيب الفرنسية والآمربكبة، وعقود التنقيب والاستغلال.
لا بد لموريتانيا من رؤية متكاملة لدخول هذا المعمعان، جزء مهم ومستعجل منها بناء صندوق استثماري سيادي يحرر الحديد من الوهن والذهب من النهب، والسمك من الارتهان والغاز من أن يكون حديدا أو “يسطح” منجما؛ أو يلعب به الأوروبيون.
وجزء منها قوة حماية من حروب دول المحاور، فاللاعب القطري يملك “التأجيج”، والشركات غير المحظية تملك “التوتير”، والمستعمرون القدماء إن بسط لهم الكف “قطعوا الجناح والأكف” معا.
ومن هذه الرؤية امتلاك نواكشوط قوة مركبة من بوابات عقول المعرفة الرقمية عبر ( غوغل ، وآبل، وفيسبوك ، وآمزون، ومايكروسوفت، وتوابعهم)
وصناعة إعلام رقمي منافس لغزوات الأفلام المدبلجة والقنوات العالمية، ومروجي خطابات الكراهية والعنصرية، والتعاون الذكي مع محركات البحث وشاشات التوصيل ( سي.أن.أن، والجزيرة، وافرانس 24، اتويتر، ووسائط شبكة البنوك و معابير الأسواق العالمية) .
و هذا العصر (عصر الغاز) يتطلب خطة عشرية جديدة هدفها تكوين (جيل موريتاني متخصص في البرمجيات) متقن لما أنتجته (الشرائح الرقمية في ثورة المعرفة منذ ثلاثة عقود.
عصر تأخرنا فيه عربا وأفارقة وموريتانيين ، كما تأخرنا في عصر الصناعات وفى عصر الذرة ، وفي تجارب بناء تأسيس (دولة المؤسسات و مجتمع القانون).
ومن واجبات دخول بلدنا لنادي محاور إنتاج النفط والغاز؛ أن نؤسس لبنية تحتية جديدة ب”مواصفات عالمية”، سككا وخطوطا للنقل، موانئ ومراكز بحث ودراسات ، ناقلات مصانع وبواخر، بنوكا ومصارف وصناعات غذائية، وأنظمة استثمارية.
وعلى رأس جهود الأمن الرقمي في عالم خطر نعيشه في هذا العصر، يجب أن تمول الدولة بسخاء أنظمة برمجيات لمحاربة جماعات التهريب و انتحال الهويات وتزوير العملات؛ لأن السائلين الجديدين (سائل صناعات الغاز، و السائل الرقمي) شديدان في ارتدادات زئبقياتهما، ومتنوعان في ايجابيات وسلبيات ثراء ودخان عائداتهم .
وقد قال الأولون إن الثروة والسلطة كالمرأة لا تصلح لزوجين؛ و الخلطاء فى سيادتهم يبغي بعضهم على بعض، بنص القرءان الكريم.
الغاز (نعمة)، وقليل من يشكر النعم ، وعصر حروبه الآن (فتنة) وقليل من ينجح فى درء تلك الفتن.
كتبت لكم أحبتي في الألواح ، قصة دمشق ، وجلبت لكم أسرار عصر الغاز و خطوط حروب منتجيه ومستهلكيه.
لأقول لكم إن موريتانيا ليست سوريا وليست الغاز ، فهي بلد فريد لا شام له ولا حلفاء صادقين معه جوارا وزوارا..
وإن عاصمتنا إنواكشوط مثل دمشق أغلى من أربعة أرباع المساحة الكبيرة عندنا (جغرافيا وجفانا وجبال راسيات).
إن سقطت نواكشوط لا قدر الله، واحتلها خطاب الكراهية والجهويات، وتدافعتها الهويات الضيقة، فلا وجود لغاز، ولا سلطة، ولا بقاء لجمال روح، أو فسيفساء نوع في هذا المنكب البرزخي.
لذلك فإن إجابة النداء يوم الأربعاء والوقوف صفا واحدا من أجل المشترك ، و ضد الكراهية المراهقة، والعنصرية، والقبلية والجهوية، والشرائحية، هي” واجب الوقت”.
لكن هذا الواجب مثل دخولنا لعصر الغاز ، يجب أن يترجم في مقاربات من أهمها: (صناعات في التربية ومناهج التعليم، في الثقافة وجماليات الروح والجسد ، في الحريات والحقوق، في التعددية وتحرير الفضاء السمعي البصري، في محاربة ثالوث المكر و كيد الحسد ومحاربة الكفاءات، في النأي الدائم عن الحروب الخارجية، فى تجذير التدين).
نسأل الله نعمة في (دار الفناء) ، لا تنسينا (دار مقعد صدق عند ملك مقتدر).
نسأل الله أن يصلح البال مع غفران الذنب والهداية.
ألم يعط الله الملك القدوس ، في سورة محمد صلى الله عليه وسلم لمن اتبع رسوله وهديه الذي جاء به ثلاث أعطيات فقال في شعرها الأول:
(كفر عنهم سيئاتهم، وأصلح بالهم)
وقال فبها لأوليائه جل شأنه :
(سيهديهم، ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم)
صدق الله العظيم.
بقلم/ محمد الشيخ ولد سيد محمد أستاذ وكاتب صحفي.