في هذه الأيام التي تشهد تحولا في المناخ من برودة الشتاء إلى سخونة الصيف يريد البعض ممن حمل عصى الساعي إلى الحج، أن يوهم الرأي الوطني الموزع بين قهر الغلو و دفئ الاحتضان بأنه داعية إلى الحوار الجاد المفضي إلى تقريب وجهات النظر و بناء جسر الثقة و الخروج بخارطة من التفاهمات السياسية و تصورات حلول مبتكرة و مشتركة لأكثر قضايا البلد سخونة و تعقيدا و التي منها مسألة تسيير مرافق الدولة بما تقتضيه متطلبات الواقع و دوافع الإصلاح الإداري و المالي و الاقتصادي الملحة.
و هو البعض الذي لم يمتلك يوما خبرة في الميدان و لم يقدم تصورا أو خارطة يمكن الرجوع إليها أو الاستناد إلى بعض محتواها؛ مثله في ذلك كمثل الأحزاب بشقيها الموالي الذي يحلو لزعاماتها تسمية نفسها بالموالاة في حاضنة الأغلبية أو على الأقل تصنيفها في هذه المرحلة بهذا اللبوس، و المعارض بكل تناقضاته و أزماته و إصراره على اتباع ذلك النهج.
إنما هذا البعض من كلا الطرفين هو إفراز منعرج يتسم بالإستراتيجية السياسية في ساحة معترك الفصل القادم من مسار الجمهورية بعد انتهاء المأمورية الثانية التي ينص عليها الدستور و لما بعدها.
و إذ التقليد السياسي عندنا مجرد من الثوابت المرجعية التي تنظم العمل في إطار مقنن يتقيد بداخله المتعاطون بمبادئ و قيم حارسة و حامية من التقهقر و الانصياع وراء النزوات الفردية و الأساليب الماكيافيلية، فإنه يركب موجات الاعتبارات الماضية التي ما زالت تُستدعى كلما تكشفت الأمور عن بوادر تحول إيجابي؛ تحول لو لم تقف في وجهه تلك الكوابح من الماضي الحاضر، لكان مبشرا رغم صعوبة مجراه و عسر ولادته بفجر جديد و دخول منعطف فاصل من التغيير و التجديد و انطلاق دولة المؤسسات و سلطة القانون. لكنها الكوابح نفسها تأبى إلا أن تظل حاضرة و طاغية على الفعل السياسي و مقوضة مسار الوطن في ظلام الماضي و مانعة إياه من ولوج بؤر الضوء من حوله.
البعض يريد لهذه الوضعية الشاذة و المقلقة أن تظل على حالها فتخندق لأجل ذلك في مجموعات تختلف في الطرح و لا تقبل الرأي الآخر و معتمدة في تناقض شديد و مريب على المحسوبين رياء على الذين يدعون أنهم حملة خلاصة الفكر السياسي و الإنساني من القومي الانحساري إلى الإسلامي إلى الانفتاحي على اللا دوغماتية و اللا أيديولوجية في أخذ غير مقيد بكل إيجابي تنويري مهما تبنته جهة فكرية أيا كانت داخل “ضيق” معتقدها و “أسر” حيزها كالماركسية والناصرية والبعثية في الوقت الذي لا يؤمنون في الواقع إلا بالقبيلة والجهوية و الإثنية، لا يتوكأون إلا على المحسوبيه و الزبونية و لا يمارسون إلا التدافع عند المنافع و التصادم عند المناصب و التلابز و التغابن عند التسيير و هم في كل ذلك لا يتحلون بأدنى ذرة من تقليد حب الوطن و صيانته.
و إنها الجهات و المجموعات و الأفراد بداخلها بكل هذا الرصيد قد أفلحوا في تشكيل مدرسة سياسية استثنائية لا شرقية و لا غربية لا يسارية و لا يمينية و لا وسطية، وصاغوا مناهج و إن تعددت و اختلفت إلا أنها تقاطعت في ضرورة التنازل الاستثنائي فقط عندما يُهدد ضعف الكيان باعتباره فرس الرهان الذي يتناوبون و إن بتفاوت على اعتلاء صهوته.
حقيقة مرة على أكثر من صعيد و بأكثر من وجه لا تترك لمفهوم الحوار الجاد و المجرد من العيوب و التشوهات الخلقية أن يجد متسعا على خارطة البلد السياسية و حتى يترجم الاختلاف و تنوع الرؤى إلى أسباب تنقية الشوائب من طريق المسار إلى التنمية و الوحدة و الوئام و العدالة و قوة القانون و حكم و توجيه الديمقراطية.
وما المراوغة وضعيف المناورة التي تقوم بها عدة أطراف سياسية إذا لم تكن الأحزاب كلها في واقع الأمر إلا الكاشف الذي يسلط الضوء على عدم الجدية في السعي بما تقتضيه الرغبة الحقيقية في بدء حوار شامل يسقط المطالبة بممهدات لن تسلم النقاشات الصريحة و الجادة من وضع عناوينها بارزة على بساط التناول و اتخاذ أكثر القرارات جرأة و أصدقها بإجماع الأطراف التي تكون قد التأمت عندئد مسلحة نزاهة فكرية لا تشكو ضعفا و باندفاع حقيقي و بتجرد و نظرة ثاقبة إلى تسليط الأضواء على جميع القضايا للوصول إلى أنجع الحلول.
و إنه لبعيد كل البعد عن إيجابية الدور هو الواقع السقيم الماثل بتجاذباته المحمومة التي تقصي بعدد تشعباتها الوطنَ من موائده و تبعده عن جادة الصواب إلى هذه الضرورات قبل أن تكون مُثلا تُتبع و تُصان.. زمر من المتحزبين في خواء التشكيلات النصف وهمية لا يمتلكون فلسفة ثاقبة أو رؤى متنورة أو برامج عملية، مجتمعين في هذه الأطر التي تشكو كل علات الفوضوية و مقالب الترحال السافر، فلا يسعى في نهاية المطاف كل منها إلا لتحقيق مآرب أنانية و فرض اعتبارات قبلية و طبقية يحسبها واجبا على حركة الزمن ليسجل بذلك كيانه في دائرة ثقافة مجتمعية تعاني، فى العمق و لا تتنكر له في التعامل الحاضر، من التأثر بتداعيات ما تتسبب فيه مشاكل بنيوية تاريخية أخلاقية مزمنة و مقصية من دائرة النقاش و التحليل رغم المعارف الحديثة الجمة التي تضلع فيها لحد الآن جيلان و بعضُ مُمَهِدِين ينتمون لجيل ثالث هو الأول ترتيبا والذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر مع دخول طلائع الاستعمار و خلال الربع الأول يزيد قليلا من الربع الثاني من القرن العشرين.
مشاكل بنيوية تاريخية أخلاقية مزمنة تقف حائلا أمام التعاطي الصحيح مع معطى بناء الدولة و قيامها على أسس ديمقراطية تأخذ بالحسبان كل القضايا العالقة و تعالجها من ما تقتضيه معادلة بناء المواطنة و نشر العدالة و حماية المصير.
و لن يتأتى لأي حوار أن يقوم و ينجح ما لم ينزل كل الشركاء فيه عن صهوات خيولهم الجامحة و من فوق بروجهم العاجية و يقبلوا إلى تصحيح البدايات لأنها شرط النهايات… و النهايات المقننة من الشوائب هي البدايات الصحيحة لبناء الصرح المشتهى.