بعد لقاء جمعه ببعض زملائه في مكتب أحدهم، ودع عثمان صاحب المكتب متوجها إلى الجانب الشمالي من مبنى الإذاعة، حيث يوجد زميل لهم آخر كان فقيدنا ينوي مرافقته في سيارته إلى منزله، نظرا لتقارب مناطق سكنهما جغرافيا، قبل أن يباغته الموت، وسط ذهول الجميع، أسأل الله الكريم له الرحمة والغفران ونعيم الجنان.
رحل عثمان إلى رحاب رب رحيم، لكنه ترك دروسا يجب الوقوف عندها لأخذ العبرة ومراجعة دفاتر الواقع…
ثلاثة عقود – تقل أو تزيد قليلا- هي متوسط العمر المهني لعثمان (رحمه الله) ورفاقه من جيل الرواد الإعلاميين، ممن يمكن أن نطلق عليهم وصف “الرعيل الثاني” بعد “جيل التأسيس” الذي واكب بواكير المسيرة الإعلامية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي..
يتميز عثمان، وأبناء جيله، ومن سبقوهم من جهابذة الإعلام بمخزون قيمي نادر: عشق فطري للمهنة في ذاتها، وإيمان بدور الصحافة كأداة لتنوير العقول وتوجيه الرأي العام، لا وسيلة لملء الجيوب على حساب قدسية المبادئ، واستعداد للتضخية في سبيل إيصال الرسالة بمهنية وتفان مهما كلف الأمر،
جيل نظيف، ذو معدن أصيل، أعطى من جهده ومهنيته وزهرة شبابه وسنين عمره التي تعوض، غير منتظر لجزاء ولو بكلمة شكر.. لأنه ببساطة غير مهتم بأكثر من أداء الواجب على الوجه الأكمل…
لكن دعونا نتساءل بالمقابل -و بكل موضوعية وحياد-: ماذا قدمت مؤسساتنا الإعلامية والوطن عموما لهذه الكوكبة من الشموع ؟؟؟
ترقيات تصل مستوى “مدير عام” -على الأقل- لإحدى هذه المؤسسات كما في معظم دول العالم؟!
توشيحات وأوسمة تكريمية لهؤلاء في المحافل الوطنية؟!
تخليد أسمائهم، من خلال إطلاقها -مثلا- على معاهد أو كليات إعلامية؟ أو دفعات صحفية حديثة التخرج؟ أو حتى على أحد “الإستدوهات، أو قاعات التحرير كأضعف درجات الإيمان؟؟!
تحمل جزء ولو قليل من نفقات عيالهم، بعدما استرق عشق المهنة لحظات أعمارهم الثمينة من التمتع باحتضان فلذات الاكباد؟؟!
ماذا قدم لهؤلاء إذن نظير الدفع من صحتهم وأوقاتهم وراحتهم خدمة لصاحبة الجلالة في بلاد نكران جميل سدنتها؟؟!!
أنا سأتولى الإجابة هذه الأسئلة المخرسة حد التجمد!!
حظي هؤلاء القوم، يا ساده، ب”ترقيات” منقطعة النظير في ميادين الإقصاء والتهميش والإذلال!
تم توشيحهم بأوسمة من الظلم والتجاهل وهضم الحقوق!
حرموا حقهم الطبيعي في التعويضات المادية النصوص عليها “قانونيا” لقاء وصولهم مرحلة التقاعد ونهاية الخدمة، ليرمى بمعظهم خارج أسوار المؤسسات، أو يحتفظ بالبقية بكثير من “المن” مقابل تعويض تافه، وليس له إلا القبول تحت وطأة أنين الصغار وطنين المراجل الخاوية!
تركوا فريسة للهموم والأمراض المزمنة، قبل أن يترك فلذات أكباد من رحلوا منهم مكشوفي الظهور لمستقبل مجهول!
…. هؤلاء هم روادنا وقدوتنا ومؤسسوا صرحنا الإعلامي!
وهذا الواقع المضمخ بالعقوق والجحود هو واقعهم المر، وواقع من سلكوا ويسلكون نفس الطريق، -إن لم تصر معجزة- أو لنقل إنه واقع الأعم الأغلب منهم حتى لا نعمم..
وإن بقي “استثناء” فهو من النوع الذي يؤكد القاعده!
فمتى نتعظ؟؟!!
مغلاها منت الليلي