مكن تفهم أن يكون اقتصاد الدولة خلال مرحلة التأسيس ريعيا، لإقناع الناس بالمزايا التي يمكن أن يوفرها تشكيل دولة
حديثة، على أنقاض البنية القبلية والإمارات التي كانت سائدة حينها، لكن بعد 56 سنة من الاستقلال ودخول بلادنا مرحلة إعادة التأسيس التي بدأت تتضح معالمها ما بعد سنة 2008، سيكون هذا الطرح ـ الذي يتدثر اليوم بلبوس رفض دولة “التحصيل” التي تعتمد الضغط الضريبي وتفويت الأملاك العامة ـ خيارا كارثيا، لاستحالة الاستدامة في هذا النوع من الاقتصاد، والذي يجعل البلد تحت رحمة أسعار المواد الأولية في السوق العالمية، والتي يشكل التقلب سمتها الأساسية، كما يكرس فلسفة المواطن الخامل الذي ينتظر من الدولة أن تخدمه من المهد إلى اللحد، والذي اثبت التجربة أنه نموذجا اقتصاديا فاشلا.
من هنا كانت السياسية الحكومية التي تم إطلاقها بتوجيهات من فخامة رئيس الجمهورية والتي تعتمد تنويع الموارد المالية للدولة، والذي هو إصلاح سياسي قبل أن يكون خيارا اقتصاديا، فرس الرهان للخروج من هذا المأزق الاقتصادي الذي تم اعتماده سابقا لأسباب ربما تكون موضوعية كما أسلفنا، لكن السياسات الاقتصادية الحكومية اللاحقة لما بعد التأسيس استسهلت هذا الخيار، ربما خشية من الرفض الشعبي الذي قد يترتب على التخلي عنه في ظل ضعف الوعي، وغياب القدرة الاستشرافية للمستقبل، ناهيك عن ما تتيحه فلسفة الاقتصاد الريعي من قدرة على التحكم في الشعوب من طرف الدولة المتسلطة، التي عرفت ازدهارا في بلادنا خلال العقود الماضية.
ورغم الجهود الحكومية المقدرة في سبيل عقلنة وترشيد موارد الدولة؛ وتنويع مصادرها للخروج بالبلد من دائرة الاقتصاد الريعي، الذي يشكل هدرا لموارد الأجيال القادمة، وقتلا لروح المبادرة الاقتصادية الحرة، التي تشكل رافعة التنمية في الاقتصاديات المتوثبة، فإن البعض مازال يجد في نفسه الشجاعة للدعاية لهذا الفساد، بحجج في ظاهرها دعوة للحافظ على الأملاك العامة؛ وحماية للمستثمر الخصوصي، وفي باطنها تبرير لهذا الهدر؛ ورفضا لمساهمة القوة المالية والاقتصادية ـ التي يفترض أن تتحمل نصيب الأسد من الأعباء العامة ـ في تنمية البلد، الأمر الذي يشكل وجها من وجوه حماية الفساد الذي يحاول البعض إلباسه لبوسا أخلاقيا من خلال خلط الأوراق والتشكيك في جدية الحرب المعلنة عليه من طرف الحكومة، ورفضا لاشعوريا للخروج من شرنقة الاقتصاد الريعي.
وللكشف عن مدى تهافت هذا الطرح الذي يتخذ صيغة أسئلة ” كبرى” يثيرها البعض من حين لآخر، فإننا بدورنا سنحاول أن نثير أسئلة مشابهة علها، تثير عصفا ذهنيا لدى الباحثين والاقتصاديين وحتى السياسيين للمساهمة في كشف حقيقة مدى سلامة السياسات الاقتصادية التي تتبعها الحكومة.
إن من أهم ما يعتمده خصوم السياسية الاقتصادية للحكومية، ما يسمونه الضغط الضريبي والذي يعبرون عن مدى خطورته على طريقة “ارخميدس” بمقولة إن الضريبة تقتل الضريبة، إذا افترضنا جدلا صحة ادعائهم ـ والحقيقة تفند ذلك ـ فلنا أن نتساءل بعد 6 سنوات من ارتفاع التحصيل الضريبي المتواصل كل سنة، كيف استطاعت المحاصيل الضريبية أن تزيد؟ و لماذا لم تفلس الشركات وتنقص الموارد الضريبة، انطلاقا من الضرائب المرتفعة تجفف مصدرها؟ وفي المجال الجبائي دائما، لماذا كلما أثير موضوع الضرائب، تحدثنا عن الضرائب المجحفة التي تتعرض لها الشركات، دون أن نشير إلى ضريبة القيمة المضافة التي يدفعها المواطن، أو الضريبة على الأجور..وغيرهما من الضرائب التي تشكل غالبية المداخيل الضريبة؟ لكن السؤال الجوهري هنا من أين ستنفق الدولة على خدمات الأمن والصحة والتعليم والنقل..؟
بغض النظر عن نوعية هذه الخدمة، ومستوى الإشباع الذي تحققه للأفراد، يجب أن لا ننسى هنا أن البعض مازال يجد صعوبة في الولوج إلى هذه الخدمات بفعل محدودية موارد الدولة، وضرورة ترتيب الأولويات، ولا مجال لنقاش مدى جودتها الذي يشكل نوعا من الرفاه بالنسبة لثلة من سكان نواكشوط الغربية. إن الحقيقة التي لا مراء فيها والتي تفسر الحرب المعلنة على السياسية الجبائية الناجعة للحكومة أن الجهود التي بذلت خلال السنوات الماضية انصبت في جلها على مكافحة التهرب الضريبي مما مكن من تحقيق نجاحات معتبرة يفسرها البعض لحاجة في نفسه بأنها كانت نتيجة للضغط الضريبي. وعن اعتماد الدولة على سياسة التحصيل “الهوجاء” فإن الحديث عن بيع المدارس والقطع الارضية.. شنشة لا تخطئها أذن مستمع، لكن السؤال الذي يمكن أن يثار هنا كيف يمكن تطوير الوجه المعماري للمدينة دون الاستعانة بالقطاع الخاص؟ هل تعتقدون أن شكلها الذي نعرف هو الأفضل ويجب أن يظل على حاله؟ هل تريدون للدولة أن تقوم هي نفسها بتغيير هذا الوجه؟ وعن الخواص، هل هنالك قانون يمنع فئة من مواطني هذا البلد من المشاركة في تقديم عطاءات تسمح لهم بشراء هذه الأرض؟
إن الحديث بيع أملاك الدولة لا يمكن أن يمر دون التساؤل عن قضية مقر سكن السفير في واشنطن، فهل من الرشاد أن ننفق مئات الملايين على ترميم وصيانة مبنى بشكل دائم، أم نشترى مبنى جديد ولو كان بثمن أعلى تكون تكاليف صيانته أقل؟ بخصوص الرمزية والجانب المعنوي حجة يأخذ منها ويرد. وللذين يسألون عن أموال الطفرة التي عرفها البلد خلال سنوات الرخاء، كيف استطاعت الدولة أن تصمد في وجه أزمة انهيار أسعار المواد الأولية التي هي المصدر الأساسي لمواردها المالية لو لم تكن لديها مدخرات من سنوات الوفرة.
وللمتباكين على فارق سعر المحروقات، هل من العدل أن يتم دعم سلعة معنية يستفيد في الغالب من دعمها قلة، لا تحتاج هذا الدعم في الأصل؟ فكما هو معروف فإن دعم المحروقات يذهب في جله الى الفئات المترفة لأن استهلاكها يكون أكثر ـ بسبب تعدد السيارات والمكيفات … ـ بينما تكون انعكاسات هذا الدعم على الفئات الهشة أقل بناء على مفهوم المخالفة، وبالتالي فإن توفير هذا الدعم لمشاريع يمكن أن يستفيد منها الجميع بشكل أٌقرب للعدالة، يبقى الخيار الأسلم.
إضافة إلى ما سبق في ظل الحالات الطارئ ـ تقلص مداخيل الدولة ـ ما الخطأ في أن يشارك من غنم سابقا في غرم اليوم، ويساهم في تحمل الأعباء العامة, لا خلاف في أن سعر المحروقات يدخل في تركيبة مختلف أسعار المواد الأخرى، لكن التأثير سيكون محدودا في ظل استخدام فارق السعر في مشاريع أخرى، تخلق قيمة مضافة وفرص عمل جديدة، وحتى في مشاريع بنى تحتية مثل الطرق التي تخفض أسعار النقل، الأمر الذي يوضح أن ما تأخذ الدولة من بعض المواطنين، إنما تعيده لآخرين بشكل آخر، يضمن توزيعا عادلا للثروة بين أهل البلد. إن التمسك بفلسفة الاقتصاد الريعي الذي تعتمد فيه الدولة على بيع أو تأجير ثرواتها الطبيعية، وإعادة توزيع هذه الثروة بين المواطنين يمكن أن يضمنا رفاها محدودا ومؤقتا، وبالتالي فإن أي توجه يدفع بالحكومية للتمسك بهاذ الخيار، إنما يتجاهل حقيقة إمكانية نضوب هذه الثروة، ويحول دون تكوين رأسمال بشري ـ يشكل الثروة الحقيقة للبلد ـ قادر على تحقيق تنمية مستدامة.
أحمد ولد محمدو