مقالات

تأملات مقتضبة في واقع تناقضات متجذرة

1. الديمقراطية بطعم “السيبة” والحرية الاعلامية بطعم الشعر و الموسيقى
من ذا الذي يشك في ديمقراطيتنا التي تبهر بشموليتها النظرية كثرة الأحزاب بتعدد مشاربها الايديولوجية و سعة فضاءاتها بالاختلاف العقدي الحاد أحيانا و المشاب بالمجاملة المستمدة من
جذر النفاق و التملق تارة أخرى. ومهما اشتدت وتشعبت هذه الخلافات فإنها لا تصل مطلقا حد القطيعة النهائية و اللجوء إلى وسائل العنف المدمر؟
و من ذا الذي يشك في حريتنا اللفظية و مشتقها الإعلامي المستمد كل جزالة لغته و رصانة أسلوبه و اقتداره على تمرير الرسائل و تلقف ردود الفعل عليها من مرابع الشعر اللهجي الحساني الذي جمع قوة وحسن بيان اللغة العربية مع فسحة الابداع التي أتاحتها البداوة بكل إكراهاتها التي منها وهي ليست بالدون منها الحربائية و المكر و الغدر و المسكنة حين الضعف و الشدة عند القوة من ناحية كما أتاحها أدبها بانسجامه مع الغناء حتى دعي “لغن” و مسيقاها بعمق معنى “أزوان” وهما اللذان هيأهما طالع البداوة بنقائها و قساوتها و رحابتها و إلهامها الطافح إلى حمل رسالة الحرية الإعلامية.
و هل يستغرب بكل ما تقدم أن تظل الأمور تراوح مكانها كسل و مراوغة و حرية لفظية مفرطة و احتمال الأذى المرحلي للإنقضاض الذي يحمل أسبابه هدوء العصف قبل اشتداد القصف؛ و إن لأهل البلد في ذلك حياة مرتضاة وأسلوبية منتقاة،الكل لها قد شد الحزام ينظر مستسلما ومتأهبا في تناقض غريب ما تحمله الأيام.
فمن يشك في أن الأمر يكمن كله في أن لشعب هذه البلاد خصوصياته وميزاته وإن لم تصادف في الغالب هوى الراغبين في التحول و اعتلاء قطار العولمة السريع؟

2. الغرورية نزعة تشل نبض الأمم
و لأن الغرورية هي النزعة لتبني آراء إيجابية حول الذات وتعزيزها، الأمر الذي يتضمن على العادة رأيًا محابيًا للذات بشأن السمات والأهمية الذاتية سواء تعلق الأمر في ذلك بالناحية العقلية أو البدنية أو الاجتماعية أو غيرها، فإننا حتما مجتمع تعاقر غالبيته الكبرى هذه الصفة المدمرة لكل أسباب النزاهة الفكرية و العشرة في مفهومها الإنساني و الصادقة على خلفية تقاسم الموجود و سعي الجميع معا للحصول على المفقود. صفة يلازمها رغما عن صاحبها العزوف عن الإنتاج و البناء و التقاسم و التلاحم و التواضع. والشخص المغرور يكون لديه شعور غامر بمركزية الذات، أي بسماته الشخصية.
و لأن الغرورية بكل هذا تعني أن يجعل الإنسان من ذاته مركزًا لعالمه دون الاهتمام بالآخرين، بما في ذلك من يحبهم أو يعتبرهم “مقربين”، إلا في الإطار الذي يحدده هذا الشخص، فإن معظم أهل البلاد في أودية شتى و على مسافات متباعدة في فضاء إنكار الآخر و إقصائه.
هي “الغرورية” التي تغذيها مفاهيم العشائرية الضيقة و القبلية التراتبية في عصبها و الطبقية في اتساعها و التي تقف مانعا أمام رفع قواعد بناء الأمة و حاجزا أمام قبول الاقتباس الإيجابي من فلسفات ز منهجيات الأمم المتقدمة من حولنا و قد تجاوزت عقدة الغرورية المدمرة.
فهل نستجيب قريبا لصوت الضمير المتيقظ و نغير ما بأنفسنا التي لا تستطيع أن تطاول الجبال الشم و لا أن تخرق الأرض التي بسط الله و أعطى الإنسان أن يمشي في مناكبها و عسى الله أن يغير ما بنا له الأمر من قبل و من بعد و هو على كل شيء قدير؟
كل المؤشرات توحي بأن الأمر ما زال بعيد المنال و أن الآذان عن ذلك في صمم.

3. واقع النشاز
ما زلنا إلهي…
بعيدين كل البعد عن مصاف الأمم
و ما نزلنا عاجزين عن اللحاق بالركب
و ما نزلنا مسترقين النظر و السمع إلى أحوال غيرنا في تقدمه المضطرد
و ما نزلنا غير جادين في مسألة الالتحام بمركبة التقدم و العولمة
و ما نزلنا لا نعلم حجم خور عزائمنا و ضعف إيماننا بالوطن الذي يؤوينا و يحمينا و يسعدنا
بلى! وإنه لمن بعد مرور خمسة و خمسين عاما على نيل البلاد استقلالها ما زلنا نفتقر إلى أكثر علامات التمدن و الانفتاح شيوعا و انتشارا كالمطارات و الطرق و الكباري و جسور المشاة و الأنفاق المخففة زحمة المرور و العمارات الشاهقة و الأسواق الانسيابية و محطات الوقوف و مقاهي الانترنيت و المطاعم السريعة و لا مركزية الخدمات الإدارية التي ترتبط بها الحياة اليومية.
إننا نضحك كثيرا و نفرح كالأطفال و ننظم الرحلات لكل إنجاز من هذا القبيل و لو كان مهما و كأنه هدية من السماء لا واجبا في سياق البناء وجزاء كسلنا و لا مبالاتنا لا حق الوطن على أبنائه أن يظهر بما يليق بمقامه.
إلى متى نظل بلا حراك و العالم يدور من حولنا؟
إلى متى يظل فكر “السيبة” يشدنا إلى الخلف و يشل طاقاتنا الدفينة في أعماقنا؟
إلى متى نظل كسالى لا نبني؟
و طامعين بأيد ممدودة إلى كل سهل و لو حراما؟
و محدقين بأعين تعميها أمراض القلوب عن واقعها و تدميها بسياط الإحساس المرير بما ليس لها؟
أو لن نستجيب لعمر الخيام و هو ينشد:
هبوا املئوا كأس المنى قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر

4. الأبيض و الأسود في عصر الألوان
كلما تحولت بجهاز التحكم عن شاشات قنواتنا التلفزيونية الباهتة، و الموغلة في التخلف و عمى الألوان عن الجمال الذي أوجدته الحداثة و العبقرية المتحررة من جمود الظلامية، من خلال ما تبثه هذه القنوات من صور و مشاهد مجتزأة من البادية الجرداء و فوقها النوق الهزيلة بلا سنام و بعض عشب خريف قديم، فتحول بالريموت كنترول إلى أخرى عالمية تضج بالحركة المدنية الفائقة الجمال و النظام و البديعة الألوان و الأشكال و الناطقة بالإبداع، أحس بانقباض شديد بداخلي و ضيق مزمن في التنفس و رغبة في التقيئ و البكاء.
بون شاسع بين أجزاء الرحلة البصرية الخاطفة من الأبيض و الأسود إلى مهرجان و كرنفال الألوان الطافح بالحركة و الانسيابية العارمة. تخلف يشبه الموت عندنا، و حراك و بهجة تتقمص الحياة بعيدا عنا.
أهو قدرنا أن نظل هكذا و لا نشعر من كبر و استعلاء و ادعاء بالسمو و الرفعة و التميز و النبوغ و العبقرية و الفصاحة و الذكاء و الإبداع و الجمال؟ و الحقيقة المرة أننا مجردون من كل هذا و أن حكمنا على أنفسنا بما اقترفنا و أجرمنا عليها هو فقط حكم واقعنا الذي لا نراه من عمى و صلف.. الضعف و إدمان مغالطة الواقع التي تفتحها واسعة أبواب التخلف عن ركب مسار التقدم و الرفعة!

الولي ولد سيدي هيبه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى