مقالات

العقدُ الاجتماعيُ الموريتاني: ترميمٌ أم تطويرٌ أم إعادةُ بناءٍ؟

ظَنً بي القائمون علي مركز البحوث و الدراسات الإنسانية(مبدأ) خيرا فطلبوا مني علي غرار باقي المحاضرين أن أقدم قُصَاصَةً في ظرف لا يتجاوز عشر دقائق معدودات و ذلك ضمن فعاليات ندوة ينظمها المركز بمناسبة الذكري الخامسة و الخمسين للاستقلال السياسي الوطني حول موضوع “موريتانيا،الدولة:رهانات التأسيس و متطلبات التجذير” فلما أرجعت البصر رَجَعَاتٍ تراءي لي الموضوع بحرا يحتاج استخراجُ كنوزه و الوصول إلي ساحله و بلوغ بر أمانه فَيْضًا علميا و جهدا مُضْنِيًا و وقتا ضَافِيًا.
فَخَلُصْتُ إلي صعوبة ذلك “السباق مع الزمن” و فضلت أن أسجل “بالأحرف الأولي” كلمات – مفاتيح حول الإجابة علي سؤال التأسيس المركزي بالنسبة للدولة الموريتانية المتعلق بما إذا كان العقد الاجتماعي المؤسس للدولة الذي من أوجز تعاريفه “أنه العقد الناظم لإرادة الأفراد الحرة العيشَ المشترك تحت مظلة الدولة ” يحتاج في أيامنا هذه إلي تحيين و ترميم أو إلي إصلاح و تطوير أو إلي هدم و إعادة بناء.
فلقد قرر الاستعمار الفرنسي الرحيل عن هذه الأراضي المترامية الأطراف التي تساوي مساحتها ما يزيد علي ضعف مساحة فرنسا نفسها و التي تسكنها شعوبٌ و قبائلٌ و أعراقٌ متنوعةٌ شديدة الاعتزاز و الوَلَعِ بالانعزالية والفردانية، عَصِيًةِ الانصياع للتنظيم الإداري و السياسي الموحد العائد ربما إلي كونها لم تعرف تجربة الدولة المركزية إلا لِمَامًا إبان العهد المرابطي.
و قد أدي ذلك الرحيل – نِصْفِ الطًوْعِي ونِصْفِ الِإكْرَاهِيِ- للاستعمار الفرنسي إلي مواجهة المُسْتَعْمَرَةِ السابقة و الكيان السياسي الجديد لرِهَانَاتٍ تأسيسية جُلًي أبرزُها رهاناتُ إثبات وجود الدولة داخليا و خارجيا و الإجماع علي الهوية الوطنية و إرساء الديمقراطية التعددية وتحقيق التنمية البشرية و الاقتصادية المتوازنة و العادلة،…
و من المتواتر عليه أن الجيل المؤسس قد كسب برأس مرفوع و تألق مسموع معارك إثبات وجود الدولة داخليا -رغم أن إعلان الدولة كان سابقا علي تحديد الأمة إقليما و شعبا- و ذلك من خلال توحيد الإقليم و بسط سلطان الدولة و هيبتها علي كامل الكيانات السياسية القبلية و الأميرية و المَشِيخِيًةِ،… و خارجيا عبر تثبيت هذه البلاد( موريتانيا) المسماة إسما جديدا لم يكن لها من قبْلُ لقبا و لا سَمِيًا!! علي الخارطة الجُيُوسِيًاسِيًةِ العربية و الإفريقية و الدولية رغم شح الوسائل و غياب السند و الظهير و غَمْطِ ذوي القربي و “تَوَلِي” بعض “الأبناء” من النخب الوطنية الوازنة،…
لكن هذ النجاحات المبكرة في مجال “فرض” وجود الدولة داخليا و خارجيا رافقتها طوال الخمسينية الماضية و في ظل غالبية الأحكام الدستورية و الاستثنائية و شبه الاستثنائية التي تعاقبت علي هذا البلد عثَرَاتٌ و كَبَوَاتٌ و صَدَمَاتٌ في ميادين التغلب علي كامل باقي “الرهانات التأسيسة” الأخري.
فلا زالت معالجة ملفات ترسيخ الوحدة الوطنية وتوطيد العدالة الاجتماعية و تصحيح أخطاء التاريخ الاجتماعي و تحقيق الديمقراطية واتباع الحكامة الراشدة و إنجاز التوازن التنموي المناطقي،… تعاني الكثير من النقص و التقصير مما نتجت عنه ” تراكمات التهابات اجتماعية و سياسية” يعتقد البعض أن غالبية مؤشراتها “صفراءُ” فَاقِعٌ لونُها لم تعد بخضراء و لما تتحول بعدُ و الحمد لله إلي “حمراء”!!.
و إجمالا، فإن المتابع للشأن الموريتاني ملاحظ إجماع أهل الفكر و النظر علي الحاجة إلي مراجعة العقد الاجتماعي الوطني و انقسامهم اتجاه حجم و طبيعة و استعجالية تلك المراجعة إلي ثلاث فئات:-
أولا: فئة المطالبة بتحيين و ترميم العقد الاجتماعي: و تري هذه الفئة أن العقد الاجتماعي الذي تأسست عليه الدولة الموريتانية هو عقد تأسيسي مثالي و لا يستدعي إلا الحاجة الطبيعية و الروتينية إلي “الصيانة” المتمثلة في شيئ من التحيين الذي يتطلبه التطور الزمني و قدر من الترميم لبعض أخطاء الممارسة و أَعْطَابِ الطريق الشاق إلي بناء أول دولة مدنية علي هذه الأرض مترامية الأطراف، متعددة الأعراق و اللغات و العادات و “الأمزجة”،…
ثانيا: جماعة السعي إلي تطوير و إصلاح العقد الاجتماعي:و تسعي هذه الجماعة إلي توضيح و تثمين إيجابيات العقد الاجتماعي الحالي غير القليلة التي حصنت الدولة من هزات مجتمعية عنيفة و “أمراض سياسية” إقليمية مُعْدِيًةٍ.
كما تهدف إلي التركيز علي النواقص العديدة للعقد الاجتماعي الحالي مطالبة بضرورة تطويره و تقويمه و إصلاحه من خلال ترتيب أولويات الشواغل الوطنية كإطفاء المظالم الاجتماعية التليدة و الطارفة، الموروثة و المكتسبة “شديدة قابلية الاشتعال” و اعتماد نموذج اجتماعي هدفه الأكبر و الرئيس تحقيق العدل الاجتماعي الذي هو “الرافعة الفعالة و الآمنة” لكل رقي سياسي و تنمية اقتصادية…
ثالثا: فريق الضغط من أجل هدم و إعادة بناء العقد الاجتماعي: و يعتقد أنصار هذا الفريق و الذين منهم من يوصف أحيانا “بالغلو السياسي” و منهم من ينعت بالتطرف العنصري و الشرائحي و المناطقي أن الدولة الموريتانية أُسِسَتْ من أول يوم علي الغبن و الحيف و عدم ترتيب الأولويات و أن الإصلاح المطلوب لن يكون عاصما من الهزات المجتمعية العنيفة إلا إذا جسد قطيعة كاملة مع الماضي من خلال هدم العقد الاجتماعي الحالي و إعادة تأسيسه علي أسس جديدة.
وإذا جاز لي أن أصف الفئة الأولي بالتبريرية و الثانية بالإصلاحية و الثالثة بالاستئصالية فإنه في اعتقادي أن رهانات التأسيس لا زالت راهنة ناتئة لم يحسم منها إلا رهان إثبات الوجود و تسجيل موريتانيا ضمن ” الحالة المدنية المُؤَمًنَةِ لدول العالم” و أن متطلبات تجذير الدولة الموريتانية تمر حتما عبر تحالف النخب الوطنية كلها و لا لا أحاشي من الأقوام أحدا تحالفا يتصدي لمقاربات الفئتين التبريرية و الاستئصالية و مناصرة الفئة الإصلاحية.
و ينبغي أن تتجسد تلك المناصرة أساسا إن لم أقل حصرا في تطوير و إصلاح العقد الاجتماعي الوطني الحالي إصلاحا استباقيا، استشرافيا، تقدميا و جريئا يجعل “إطفاء المظالم الاجتماعية” و تحقيق العدل الاجتماعي و تملك النهضة المعرفية و القِيًمِيًةِ و العمل بجهد وتضحية و نزاهة من أجل تنمية اقتصادية عاجلة شاملة و عادلة أُمًهَاتِ الشواغل و الأهداف و المقاصد الوطنية.

المختار ولد داهي ، سفير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى