افتتاحية

الإرهابيون.. حقوقيون في وجه العدالة

ان سحب الغموض باتت تلف حقائق موريتانيا بين طبقاتها الكثيفة ، وتبتلع الوضوح في جوفها العميق ، لم تعد اﻻشياء تدل على مسمياتها ، وﻻ العناوين الكبيرة تحكم الموضوعات ، وﻻ الملامح الفظة او الوديعة تعني شيئا بالنسبة للطبائع و السلوك ، وﻻ اللحى و ارتياد المساجد يعنيان الاستقامة والنقاء ، وﻻ طهر الضمير و بياض الكف يمنحان السلامة ، لم أعد أفهم شيئا في موريتانيا في ضوء اﻷسماء والعناوين و اﻷشياء الظاهرة ، كل شيئ بات عصيا على اﻻدراك ، ومتمنعا عن الفهم الصحيح .
فالحوار مثلا ركيزة اساسية في بناء اﻻنظمة الديموقراطية و قيام مجتمعات الحداثة ، و المطالبة به والموافقة عليه من القيم الحضارية التي ترسخ قواعد السلم و اﻻستقرر ، وتفتح اﻻبواب مشرعة للنهضة والنمو ، وإذا كان فرقاء السياسة في موريتانيا يدركون نظريا أن الحوار هو اﻷسلوب اﻷرقى لحل خلافات الشركاء ، وأنه ضرورة متحتمة ، فإن الدعوة إليه و اﻹستجابة له من أي طيف سياسي مسألة منتظرة ومفهومة ، لكن المريب حقا هو ان ترى بوضوح ﻻ لبس فيه أن الدعوة الى الحوار ، ﻻ تعني النداء له و ﻻ الندب إليه ، وأن ” اﻻ ستجابة ” ﻻ تعني الدﻻلة اللغوية لهذا اﻻشتقاق من اصله ، إنه شيئ آخر عميق يشبه اﻷحاجي واﻷلغاز وحكايات ألف ليلة وليلة وغرائب كليلة ودمنه ، ولد داداه ومسعود وولد مولود وغيرهم من الوجوه واﻷسماء اﻷخرى المعارضة والموالية تصرخ فينا كل صباح و مساء طالبة الحوار ، لكن الظاهر من الحال ان ﻻ أحد منهم يريده حقا .
اﻷميون على منابر النقاش والتحليل و التوجيه و التنظير ، والمثقفون والعلماء يستمعون كرها لهراءاتهم على الشاشات في البرامج التلفزيونية السخيفة ، واﻻعلام يغتال بالتسول واﻻبتزاز والنزق والطيش صاحبة الجلالة ، عاريا من المهنية و يسلق بالبهتان واﻻكاذيب كل وضيئ جميل ، ويصور الفحم ذهبا ، و المفسد المعروف يتبختر في جلباب اﻻصلاح واعظا ومرشدا ، ويبيع صكوك الغفران و يمنحها على الوﻻء و الهوى ، والمصلح اﻻمين متهم مسلوق على اﻷلسنة ، كل شيئ بدى مناقضا لجوهره وحقيقته .
آخر شيئ في ابداعات واقعنا المتناقض المر ، عار كبير و هزيمة نكراء للحرس والعدالة ، ليس فقط لأنهما خضعا في معركتهما ليلة اول امس ﻻملاءات اﻻرهابيين ، وانما ﻷن اﻻرهاب أصلا كجريمة سوداء تعادي الحياة و ﻻ تعترف بالحق وﻻ القانون ، بات اليوم متهموه كمن يفرضون بجسارتهم احترام القانون ، ويسرجون الخيول في غزواتهم ليس لحرق المتاجر و المدارس و المستشفيات وقتل اﻻطفال والنساء و اﻵمنين ، و ﻻ ﻹفساد الحياة و التضاد مع القانون ، و انما لرد اﻻعتبار للقانون وحمايته من بطش الجهات المؤتمنة على فرض احترامه ، فالقانون يجرم اﻻعتقال بغير سبب شرعي ، وانتهاء المحكومية ينتفي بالتزامن معه حق السلطة في الاعتقال إذا لم يكن المتهم يخضع لبطاقة أخرى بحبسه ، والمفروض أن تكون العدالة مع القانون ﻻ ان تكون عليه ، وإذا لم يكن ذلك كذلك فإن آخر من ننتظر انحيازه للقانون وانتصاره للحريات هو التطرف و الارهاب ، فهل هؤﻻء المتهمون هم ارهابيون حقا ؟ أم ان وجودهم في ذلك الصف ﻻ يعدوا كونه مظهرا من تلك المظاهر التي يمتلآ بها الواقع وتضج بها حياتنا .
إن مبرر احتكار الدولة للسلاح و اﻻكراه يعود الى التزامها بفرض السكينة و النظام العام في الشوارع و داخل المساكن في المدن و القرى واﻻرياف ، وهو وسيلة ضمن اخريات لتجسيد المفهوم النظري للسيادة على اﻻقليم ، وﻻ يختلف اثنان أن السجين هو أضعف المخلوقات على اﻻطلاق ، وأكثرها تجريدا من القوة وعزﻻ عن الحياة ، وأعجزها عن أي ضغط اللهم ما يكون عادة من استخدامهم للاضراب عن الطعام كوسيلة ﻻستدرار العطف اﻻنساني ، لكن المعتقل في سجوننا بدى قادرا على التواصل عبر الوسائط المتعددة ، ومن يدري ربما يخرج من حين ﻵخر في وقت من الليل او النهار ﻻبرام صفقة او حضور وليمة او لعقد قران ثم يعود لوضعه ، و بالتالي هو يمارس كل مفردات الحرية وبشكل اكثر من الطلقاء ، وفي وضع كهذا تبدوا السجون عندنا عصية ضمن الكل متماهية معه في مجرات التناقض ، و متمنعة عن أن تكون سجون قادرة على حجز السلوك اﻻجرامي و تحقيق الحماية من مخاطره ، و منع انتشار عدواه و علاج اصحابه من افكارهم الضارة ، بل ان اﻻدهى ان يتحول السجن الى قلعة عسكرية وحصن منيع يتربع السجناء على عرشه ، قادرون على الحاق اﻷذى والضرر ببعضهم و بكل الكتائب والفيالق المجهزة حين تتحرش بهم ولو بلطف ، ويظل هيجان اﻻرهابيين في وجه العدالة واعوانها ، ووثبتهم القوية لفرض احترام احكام القضاء مفارقة كبيرة ، و غموض يكتنف هذا التحول ويطرح بقوة فرضية وجود ارهابيين حقوقيين في وجه اكثر السلطات ارتباطا بالحقوق وهي السلطة القضائية .

بقلم الشيخ التجاني عبود

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى