مقالات

… “الأرقام” راحة للأقدام

أدبر شهر الصيام و القيام و أقبل عيد الفطر المبارك و لكل عيد عند متوسطي و محدودي و معدومي الدخل من الموريتانيين خوفان: خوف من التكاليف قاصمة الظهر لشراء غالي اللباس للأطفال و النساء و عمال و حراس المنازل…
و خوف من ارتفاع ” ضرائب العيد” التي تدفع وجوبا للأصهار و مروءة لصلة الرحم الاجتماعي و المهني و السياسي و شراء الأعراض من فئة جديدة علي المجتمع شديدة البطش واسعة الانتشار هي فئة” أكلة لحوم البشر”.
وتميز العيد هذا العام في العاصمة نواكشوط بخوف ثالث هو الخوف من “الاحتباس المروري” الذي لم تسلم منه الغالبية العظمي من التقاطعات الطرقية و إن كان أكثر حدة في المقاطعات النائية و الأحياء السكنية الطًرَفِيًة وكانت مدته كمدة العطلة المحظرِية ثلاثة أيام قبل العيد و ثلاثة أيام بعده.
و قد وصلت الاحتباسات المرورية طوابيرَ مدً بصر زَرْقَاء اليمامة من السيارات حتي يخيل إليك أن المشهد قريب من مشاهد النفرة إلي مزدلفة لولا ما يكذب ذلك من شواهد صخب الموسيقي الواردة من آليات التسجيل المركبة بالسيارات و أعمدة دخان التبغ و السجائر و شيئ من نقص حشمة ” نسوة المدينة”..
وألسنة جميع ساكنة نواكشوط رطبة هذه الأيام من طرائف التعامل مع مفاجآت الاحتباس المروري فمنهم من يجزم أنه قرأ سورتي البقرة و آل عمران مُرَتًلَتَيْنِ عند إحدي التقاطعات الطرقية دون أن تتحرك سيارته قيد أنملة و آخر يقسم أنه أفني خدمة “ساعتي اتصال” إلي بعض الصٍحَابِ و الأقارب دون أن يطمع بتشغيل محرك سيارته.
و ثالث روي مشاهدته لسيدة جاءها المخاض عند إحدي “عقد المرور” و ملأت هي و رفيقاتها المسامع أنينا وتوجعا و بكاء و عويلا و كادت أن تضع حملها و آخرون لما صدهم الاحتباس الموريتاني عن صلة أرحامهم فزعوا إلي إرسال رسالة عير الهاتف نصها” الحمد لله الذي جعل الأرقام راحة للأقدام من الزحام ، عيدكم سعيد و كل عام و أنتم بألف الف خير”.
لكن ما استغربه العديد من المراقبين و زاد من حَدٍيًةِ الاحتباس المروري هو غياب أجهزة مراقبة و أمن الطرق عند العديد من التقاطعات الطرقية المحورية و الحساسة و ما نجم عنه من فوضي عارمة أدت إلي قيام مبادرات شبابية تطوعية بتنظيم المرور مما يعيد إلي الأذهان مظاهر الانفلات الأمني التي واكبت ثورات الربيع العربي و يَقْرِصُ أذن كل موريتاني حادب علي وطنه تنبيها علي أهمية الحفاظ علي نعمة الأمن و الاستقرار و واجب تداعي الطبقة السياسية إلي حوار وطني عاصم من الاستقطاب و التجاذب المفضيان غالبا إلي الفوضي و انعدام الأمن..
و تطرح ظاهرة ” الاحتباس المروري” إشكالية حضرية و مجتمعية يتعين تشخيصها و معرفة أسبابها المعينة علي صياغة سياسة عمومية لمواجهتها و الوقاية من تداعياتها السلبية و في اعتقادي أن من أهم أسباب الاحتباس المروري:-
أولا: “لا مستقبلية” و تشوه المخططات العمرانية: من المعروف أن المدن العصرية تشيد بناء علي مخططات عمرانية و إمداد مسبق بشبكات المياه و الكهرباء و الطرق الهيكلية و المرافق الخدمية الأساسية بينما الحال في عاصمتنا نواكشوط و غالبية المدن الرئيسة أنها نشأت ابتداء علي طريقة الحي المرتحل الذي لا يعبأ بالمرافق الثابتة و الدائمة.
و القليل من الأحياء التي شيدت بناء علي مخططات عمرانية مسبقة عانت من عائقين اثنين أولهما رداءة الإعداد الفني للمخططات الناجمة عن نقص الخبرة الفنية و ثانيهما التلاعب الكبير للإدارة الإقليمية و المصالح الفنية للعمران و الإسكان و الدومين بالمخططات العمرانية الأمر الذي أدي إلي “ابتلاع “كل الساحات العمومية و الاحتياطات العقارية و مخصصات المرافق العمومية و إغلاق أو تضييق معظم الشوارع العمومية..
ثانيا:حصر معظم الخدمات الإدارية و التجارية في أحياء معينة: من المتواتر عليه أن من أهم أسباب الاحتباس المروري مركزة 80% من الخدمات الإدارية و التجارية و المصرفية في مركز المدينة الذي يقدر الوافدون إليه بداية أوقات الدوام ب 60% من سكان نواكشوط و الذين يعود سوادهم الأعظم حوالي 90% إلي الأحياء الطٌرَفِية نهاية الدوام اليومي مما يتسبب في احتباسات مرورية خصوصا في أوقات الذروة بداية و نهاية الدوام.
ثالثا:محورية المركوب في المعيارية الاجتماعية: يرجع البعض الاحتباس المروري إلي الارتفاع الكبير في عدد السيارات و أنواعها الرباعية الدفع و الخفيفة و الذي لا يتناسب مع القوة الشرائية للمواطنين.
و يعيد بعض ” المفسرين الاجتماعيين” تضخم عدد السيارات إلي محورية المركوب في المعيارية الاجتماعية حيث أن المركوب حصانا أو جملا مثل دوما أمارة الفتوة و الرجولة في التراث الموريتاني و ما من أب يرضي لابنه أن لا يكون له مركوب مكتمل الشروط و علي نفس المنوال مثلت السيارة اليوم إحدي أهم أمارات الرجولة قبل أن تغدو أيضا إحدي أهم علامات الأنوثة و أكثرها جاذبية و تأنقا..
و في المحصلة فإن ظاهرة الاحتباس المروري تطرح إشكالا حضريا حادا يتطلب استعجالا إعداد سياسة متعددة الأبعاد تنطلق من معالجة الأسباب الآنف ذكرها مع التركيز علي ضرورة التخطيط الاستباقي و التحكم الاستشرافي في حركية و نمو المدن إضافة إلي تحريض لا مركزية إدارية و تجارية و خدمية داخل المدن تحارب احتكار بعض الأحياء لمعظم القطاعات الخدمية دون نسيان القيام بجهد وطني لتغيير العقليات البدوية المنقولة غير البناءة و المتجاوزة و التي تتلاغي و قيم المدنية الحديثة.

المختار ولد داهي، سفير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى