الأخبار

دردشة مع وثيقة التواصليين الوطنية / جعفر ولد محمود

طوال الرحلة بين انواكشوط وباريس والممتدة خمس ساعات وانا اشاكس وثيقة التواصليين حول الوحدة الوطنية ولهم الشكر على تعمير مدة الطيران بنقاش العديد من الإهتمامات واستحضار الكثير من الأدبيات والكتابات حول المجتمعات المركبة وطرق بناء الشرعيات داخلها وكانت لي جملة من الملاحظات منها ما هو عام حول أي عمل تنظيري تصدره جهة سياسية ومنها ما هو خاص بالورقة ومضمونها .

بداية جميل أن تصدر ورقة عن حركة سياسية مهما كان تموقعها في التصنيفات الفكرية السياسية العربية ..وفي الساحة الوطنية .. هذه خطوة تستحق الإشادة أن تمتلك الحركات السياسية أوراق حول القضايا الوطنية وهذه خطوة تذكر للبعثيين وتشكر لهم إنطلاقا من ورقتهم الأولى رؤية وطنية مرورا بورقتهم البعث والحراطين وليس انتهاءا بالاوراق التي تصدر من وقت لوقت عن شيخ هؤلاء ومرجعيتهم الأستاذ محمد يحظيه .. إنها ثقافة كرسوها ولهم الشكر .

الورقة الاخيرة لتواصل جد مهم في هذا السياق ..لكن المفترض أن تكون رؤية بمعنى الرؤية تنطلق من التصور النظري وتناقش المشكل وتتعامل مع الواقع .. في هذه الحالة نكون أمام رؤية ، الخروج من الواقع يجعلنا أمام مثاليات والكتابة دون تنظير فكري يجعلنا أمام إنشائيات أدبية لاتحل المشكل بقدر ما تساهم في تضبيب الصورة .

الورقة الأخيرة المستندة على المطلوب من الدولة لحل المشكل يعيدنا لمشكل قائم في الأدبيات الإسلامية حول العلاقة بالدولة والمخول للدولة التصرف فيه وكيف تكون الدولة فاعل في الحالة الإجتماعية الإسلامية دون التغلب على التصورات اللاإسلامية القائمة في تفكير الدولة الموروثة بشكل عام من المستعمر أو مستوردة من تجربته التسييرية .

الورقة تنطلق من ضرورة نشر الخطاب الإسلامي الصحيح .. هذا يضعنا أمام إشكال معقد ،أي خطاب إسلامي صحيح يجب نشره .. نحن امام عشرات الخطابات الإصلاحية والتي انطلقت من ارضية فكرية اصلاحية مجتمعية وتحولت لأحزاب سياسية تتصارع وفق الخطاب الرسمي القائم للدولة ولم تعد تتحرك انطلاقا من خطابها بقدر ماتتعامل مع الواقع ببراجماتية ونفعية ، ثم إن هذا الخطاب تنوع وتعددت سلوكياته رغم وحدة المصدر لما لايمكن معه الإتفاق على خطاب واحد أو رؤية واحدة .

الورقة تطالب بسن قوانين تجرم شيئ وتحلل شيئ .. وهذا يفقدها القدرة على ان تكون رؤية لأن القوانين لاتحل المشاكل المجتمعية ، إنما تسعى فقط لتنظيم الصراع والتنافس حولها ، ثم إن القوانين المدنية لاتحل المشاكل الحقوقية او التاريخية انطلاقا من رؤية أو خطاب إسلامي .. إننا هنا نورط القانون أو نورط الخطاب الإسلامي.

الأزمة الأكثر تعقيد هو ربما عدم إحاطة بطبيعة المجتمع أو بطبيعة النظام العام الذي يحكمه ، فالورقة تطالب بتوسيع اللامركزية ومنح صلاحيات كبيرة للبلديات وإعادة التقطيع الإداري بما يلبي الخصوصية المحتمعية الإثنية يمايعني قانونيا جهوية موسعة ، وهذا يعني مع الزمن القول في اوراق أخرى منتظرة الحكم الذاتي كنهاية حتمية للجهوية الموسعة ..

كيف لمن يفهم تكوين بلد لم تنجح المركزية في ضبطه وتوجيهه أن يسعى للامركزيته أكثر .. السياسة هنا أهم من القانون والمجتمع أهم من الدولة والرأي هنا أهم من النص يجب الوعي بهذا في اوراق مقبلة .

دعوة العلماء مهمة جدا في هذا الباب وهو شيئ يذكر للورقة كنوع من التنبه لدور الفاعلين المجتمعيين .. لكن التموقع السياسي يلغي طبيعة التعريف الإتفاقي للعلماء والدعاة .. هناك علماء يرفض القول بفقهيتهم أو حتى بأستاذيتهم فتخاطبهم جهات سياسية وأجنحة إعلامية تتبع لها بصفات بسيطة يمكن أن تطلق على العامة ما يفقد الراي العام القدرة على تحديد العلماء من غيرهم ما يعرقل الفكرة التي تقدمت بها الورقة ، السلوك العام مهم جدا ويجب ان لا يأتي التنظير بشيئ يناقض السلوك الصادر من نفس الجهة .

مهم جدا أيضا في الورقة التنبه للتعليم الأصلي وتعزيزه .. لكن تعزيز التعليم الأصلي يكون من خلال ذات التعليم المنطلق من الحاضنة الإجتماعية المحلية ، ولايكون عبر تعزيز او تطوير تعليم تقليدي إنطلاقا من مرجعيات فقهية واصولية اخرى ليست بالضرورة ملائمة للواقع الإجتماعي هنا .. ببساطة ليست من نتاجه وإفرازه وليست نتيجة لإجتهاد علمائه وفقهائه . الورقة ايضا تحمل تصورات اخرى جد مهمة لكن صعب تقديمها كقوانين او سنها كتوجيهات .. تعزيز الوحدة الوطنية من خلال تشجيع المصاهرة كيف تكون هذه .؟ لايمكن إلغاء عقليات المجتمع بالقانون بقدر ما تكون ببناء الوعي والوعي يبنى بالزمن الذي هو صانع الإنتقال والمفكرون خلف الورقة واعون أكثر لهذا ولتجارب مماثلة فشلت في السودان وفي مصر .

لاتخلو الورقة من المستحيلات .. الحديث عن تطهير الثقافة الشعبية !! كيف يمكن لاتملك التكنلوجيا بعد اي مسحوق او علاج يستطيع تطهير العقل او غسيل المخ .. ثقافة اي مجتمع جزء من تاريخه وتظل وفق سياقها جزء من تاريخها لايمكن ان تلغى أبدا .. لايستطيع الأعزاء في تركيا التخلص من شيئ في النفس تجاه العرب من ابناء الدولة العثمانية والمفكرون في الصفحة واعون لذلك .. كما لم ينجح الاعزاء في مصر في مسح شيئ في الثقافة المصرية تجاه اقباط مصر .. ونفس الشيئ في المغرب والجزائر .. كل مجتمع له سخرياته وحكاياته وهي جزء منه حتى في الوحدات القبلية وحتى العائلية هناك توصيفات وسخريات بينية تصل لمستوى القدح ولايمكن مسحها .. هذا مستحيل.

لم تستطع الورقة الخروج من ثنائية غير عادلة بالمرة .. وهي الدعوة لنيل المبعدين لكل عقاراتهم وحقوقهم وتعويضهم طبعا من الدولة ليس من بيت مال المسلمين .. لكن لم تتطرق الورقة لحقوق المسفرين من الجنوب للشمال بشكل عكسي..

إنه مسعى مشترك وقضية مترابطة من حيث هي ظلم عام والدولة معنية بتقديم عدالة في الموضوع بشكل عام .

الورقة تقدم توجيه مهم وضروري حول إحياء الآداب الإسلامية العامة من تكافل واخوة .. هذا مهم لكن الأهم تقديمه في نماذج تقلد ويعاد إنتاجها ..وليس من السهولة عرضه من خلال احزاب وتنظيمات تتعامل مع افرادها وتتكامل وتتكافل مع المنتسبين لها .. يجب ان يكون الأمر عام ويجب ان يطبق هذا التوجيه كنموذج والا يصبح مجرد شعار .

أخيرا تبقى الاوراق الفكرية جهد مهم في تقديم تصور للواقع ولمشاكله ولاينبغي ان تكون مجرد فلسفات فوقية لايمكن الوصول لجوهرها إما بحكم الواقع أو بحكم الإمكانات والظروف، وفي تقديمها يجب التمييز والتحديد هل سنكون أمام ورقة للإسترشاد الحزبي الحركي وهي بمثابة مرجعية توجيهية خاصة .. أم امام رؤية عامة مشتركة ينبغي أن نسعى ونكون معنيين اكثر من الآخر كجهة مصدرة بتنزيلها وتطبيقها .. دون ذلك نكون أمام حرج كبير نضع فيه انفسنا ونضع فيه المعنيين بطرحنا النظري والفكري ..

شكرا للإخوة المفكرين في تواصل وقد افادوا واجادوا ولانرجو من هذه الورقة إلا أن نكون ساهمنا في تعزيز النقاش حول الورقة الفكرية.

جعفر محمود

رئيس منتدي الشباب للبناء و التنمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى