مقالات

لموريتانيا.. استهداف رمز…/ محمد اسحاق الكنتي

في أول اختبار في مادة الفلسفة أيام الثانوية، حشد كل ما وعته ذاكرته الفقيرة من أقوال سقراط وأفلاطون وأرسطو، وبذل جهدا مضاعفا في التهميش والتعليق عليها ليبين لأستاذه دقة فهمه وقدرته الفائقة على تلوين الهوامش… خرج من قاعة الدرس منشرحا؛ ف”الحد الأدنى” لعلامته لا يمكن أن يقل عن 14 درجة على مقياس Philippe Goueit ومرت الأيام ليكتشف سوء تقديره. عنفهم الأستاذ جميعا.. “أعرف هذه الأقوال، وهي في أفواهكم لا تعني شيئا… أريد أن أعرف ماذا تقولون أنتم…” كان غويت يسخر من أقواله، وأقوال زملائه.. شعروا بالإهانة أول الأمر، ثم بالحرج أمام المنافسين، وما لبثوا أن شاركوه السخرية من أقوالهم الساذجة، فأدركوا القيمة العلاجية للنقد الذي يئد “بنات أفكارك” قبل أن تصبح “دوغما” تشل تفكيرك…
وإمعانا في السخرية بهم كان غويت يطلب منهم البحث عن مثالب مقولة فلسفية خالدة.. وبعد أن يضعوها “على السفود”، ويخضعوها ل”الغربال”، دون أن يعرفوا قائلها، يخبرهم غويت أنهم “تطاولوا” على هيغل، أو “أساؤوا”، بدون “سبب” على هيوم، وحفروا أخاديد في لحم صاحب “حفريات المعرفة”… والأغرب من ذلك أنه كان يبتسم قائلا.. “أحسنتم!”، وتتفاضل الدرجات بقدر منطقية “التطاول”، وحجية “الإساءة”… ومنذ ذلك التاريخ أصيب صاحبنا بفايروس “قلت” .. على طريقة صاحب الطوق، دون مجاراته في حدته…
(C. la faute à Goueit).
درس الفلسفة هذا لا نزال في أمس الحاجة إليه اليوم لندرك أن “بنات أفكارنا” لسن في الحقيقة سوى آراء ينبغي أن نتخذ منها مسافة تحمي مشاعرنا من الطعن في تلك الآراء، وندرك أن كل قول يستلزم قولا يماثله في القوة ويخالفه في الاتجاه، دون أن يستبطن إساءة لقائل، أو تطاولا على مفكر، أو سخرية بكاتب… وأننا في فترة تضخم للآراء المعبر عنها بأساليب وطرائق مقبولة ما التزمت حدود القول دون تجاوز على القائل…
يتحقق ذلك حين يكون الفيصل بين الآراء والأقوال قبولا ورفضا متوقفا على قوة البراهين، وسلامة الاستدلال دون الالتفات إلى “الماركات الفكرية المسجلة”؛ بمعنى أن نقرأ النص من عنوانه بدل الخضوع لموّقعه، أو الازدراء به… في هذا السياق سأهتم بنص يقدم “التناوب السلمي على السلطة” حجة لمنع رئيس الجمهورية من خوض الانتخابات الرئاسية القادمة، فقد اهتممت في مناسبات سابقة بإيضاح أن التشبيب الطريف بالدستور، ممن لم يعن لهم الدستور قبل الآن شيئا، لا ينطلي على أحد. كذلك فإن استدعاء “التناوب السلمي على السلطة” لا يثبت أمام التمحيص…
يقول وزير خارجيتنا السابق، والرئيس الحالي للجنتنا المستقلة.. “قلت في منشور سابق بأن الرئيس قد لا يترشح… وقلت إن عدم ترشحه،…، سيكون خطوة كبيرة تفتح باب التناوب على السلطة في حده الأدنى داخل فريقه السياسي؛ وفي الحد الأقصى بينه وبين المعارضة.” (مراسلون 13/03/2018). يعمد معالي الوزير إلى تقسيم التناوب على السلطة إلى حد أدنى وحد أقصى، وهو تقسيم لا يراعي تعريف المصطلح، كما ورد في (Le dictionnaire de politique) “يتجلى التناوب السياسي في نظام سياسي يتكون من توجهات وحساسيات، أو أحزاب سياسية مختلفة تتعاقب على السلطة؛ كأن تطيح المعارضة بالأغلبية في انتخابات تشريعية أو رئاسية ضمن الاحترام التام للقواعد الدستورية.” بهذا المعنى لا يمكن الحديث عن “تناوب على السلطة” داخل فريق سياسي واحد؛ إذ شرط التناوب أن يتم بين معارضة كانت خارج السلطة وأغلبية فقدتها. ولا يختلف هذا التعريف عن تعريف آخر أورده الوزير في مقال بعنوان (التناوب الديمقراطي على السلطة): “آلية ديمقراطية تسمح لقوتين سياسيتين متراضيتين على أسس النظام وقواعد الدستور من التداول على السلطة…”.
من كل ذلك يتبين أنه ليس هناك حد أدنى للتناوب على السلطة، ولا حد أقصى؛ فانتقال السلطة من شخص لآخر، داخل فريق سياسي واحد لا يصنف تداولا للسلطة. فلم يحدث تداول للسلطة في بريطانيا حين خلف جون ميجور مارغريت تاتشر، ولا في أمريكا حين خلف بوش الأب رونالد ريغن؛ ففي كلتا الحالتين لم تنتقل السلطة من أغلبية إلى معارضة، وإنما ظل المحافظون والجمهوريون في السلطة. غير أن تمطيط المصطلح، على طريقة بروكست، ليشمل حالة يراد لها أن تبرر به يدخل ضمن سجالاتنا السياسية التي تتساهل في الغالب مع الحدود المعرفية والضوابط المنهجية، ودقة المعلومات التي تتم المحاججة بها…
من هذا التساهل الجزم ب”دسترة الحد من عدد المأموريات الرئاسية في العالم كله” (التناوب الديمقراطي على السلطة)!!! فجارتنا الجزائر يستعد رئيسها، متعه الله بالصحة والعافية، للترشح لمأمورية خامسة، وقل الشيء نفسه عن الكامرون، وتشاد، ورواندا، على سبيل المثال… وكلها بلدان تنتمي “للعالم” الذي ننتمي إليه.
إذن، واقع الحال، الذي تدركه نخبتنا السياسية في الأغلبية وفي المعارضة، هو أن الانتخابات القادمة لن تفض إلى “تناوب على السلطة” بسبب ضعف المعارضة وتشرذمها، واستعداد بعض أقطابها لدعم مرشح الأغلبية!!! وبذلك تسقط آخر الحجج التي يتمترس خلفها من يريدون، بشتى السبل، منع رئيس الجمهورية من المشاركة في الانتخابات القادمة. لذلك من باب الأمانة العلمية، واحترام قرائنا الكرام أن يظل النقاش على مستوى التصورات السياسية لما فيه المصلحة العليا للوطن؛ وما الذي تقتضيه هذه المصلحة. فإذا اتفقنا على أن الدساتير وضعت لتعدل، وأن تحصين المواد المتعلقة بالمأموريات بدعة لم تسبق إليها فترتنا الانتقالية (أكون ممتنا لمن يذكر لي دستورا به مثل هذه المواد محصنة)، فإن “ما بني على باطل فهو باطل”، ولا تتخذ البدعة حجة. وإذا اقتنعنا أن الانتخابات القادمة لن تفض إلى “تناوب سلمي على السلطة” أيا كان مرشحوها… لم يبق لنا سوى النظر في مصالحنا الوطنية العليا التي تقتضي كتابة دستور جديد يواكب التغيرات الجذرية التي أدخلها المشروع الاجتماعي لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز على حياتنا السياسية ومؤسساتنا الدستورية، وهي تغييرات لا تأخذ مكانتها التاريخية اللائقة بها إلا بإعلان جمهورية جديدة تستمد شرعية الماضي من مقاومتنا الوطنية، وشرعية الحاضر من الانجازات، وتتطلع إلى المستقبل بطموح وطني مشروع… ولا مانع في أن يتضمن الدستور الجديد تحديدا للمأموريات الرئاسية دون تحصين؛ لأن التحصين مصادرة على الأجيال القادمة التي ستختلف ظروفها عن ظروفنا… أما بر الأيمان، بعد توكيدها، فقد أجاب عنه الفقهاء الذين لا ينتمون للتنظيم الدولي، وفي “الدرس الولاتي” إجابة شافية، وقول فصل…
لقد كان محمد حسنين هيكل محقا، حين صنف محاولات تشويه تراث عبد الناصر بأنها حملة تستهدف “مبادئ معينة، وقيمة معينة، ولحظات معينة… وكان واضحا أن هذا كله يجري لحساب قوى معينة وأطراف بعضها يعرف ما يفعله وبعضها لا يعرف.” لذلك انتصر “لمصر لا لعبد الناصر”…

محمد اسحاق الكنتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى