مقالات

شكرا لاترامب

في جلسة طارئة لمجلس الأمن، تجرعت الولايات المتحدة الكثير من الانتقادات الدولية من طرف بريطانيا وفرنسا والسويد وإيطاليا وألمانيا على أن قرار ترامب يتعارض مع قرارات مجلس الأمن، وقد وضع الولايات المتحدة في قطيعة مع إجماع الدبلوماسية الدولية في الشرق الأوسط الذي استمر عقودا من الزمن وكدولة وحيدة في العالم اعترفت بضم القدس الشرقية في خرق واضح للقانون الدولي، كما اشتعلت العواصم الإسلامية بالمظاهرات كدليل على السخط من الغطرسة الأمريكية.
لقد رسم الموقف العالمي الموحد لوحة جميلة بلغات وألوان مختلفة وببصمة رفض صارمة. وهكذا مني ناتنياهو، أثناء جولته الأوروبية، بالرد نفسه بأن العالم يلتزم بحل الدولتين. لقد قوض ترامب الدور الأمريكي في عملية السلام دون أن يتوقع أنه سيواجه معارضة بحجمها الحالي خاصة من طرف الأوروبيين. فقد كان قرار الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل أمرا سهلا بالنسبة له لأنه يتوقف على قراره وحده دون الرجوع إلى مراكز قوى أخرى، وقد كان يريد صرف الأنظار بصفة بارعة عن فشله الداخلي وعدم قدرته على تمرير بعض القرارات رغم أن حزبه يتمتع بالأغلبية في مجلس الكونغرس، لكنه -لسوء الإدراك- لم يكن يعرف أنه فتح أبوابا أخرى تطل على تيار عارم من الرفض: تسعة سفراء أمريكيين سابقين في إسرائيل، من أصل 11، عارضوا الخطوة الأحادية وفق استطلاع أجرته واشنطن تايمز، وكذلك أدان أكثر من 100 أستاذ في الدراسات اليهودية قرار ترامب في رسالة جماعية، كما انتقدت صحيفة هآرتس الإسرائيلية التقليدية والمجلس المركزي لليهود في ألمانيا هذه الخطوة. يقول مارتن انديك، السفير الأمريكي السابق في إسرائيل، والمبعوث الخاص في المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية، ونائب رئيس مركز بروكينكيس للأبحاث: “كان القرار إغراء لقاعدة الإنجيلية والمسيحية المتشددة”. ويؤكد ستيفن سبيغل، مدير مركز تطوير الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا، بأنه “إرضاء للداعمين اليهود والمسيحيين المحافظين” وأن “ترامب حطم مساعي الحكومات في الشرق الأوسط، وهي واحدة من المناطق القليلة في العالم التي كانت تتطلع بإيجابية لسياسية ترامب حتى وقت قريب”.
والواقع أن هناك شيطان على ظهر ترامب. إنه صهره جاريد كوشنير المعروف بعلاقاته الشخصية مع ناتنياهو والذي تبرعت عائلته اليهودية بملايين الدولارات لبناء مستوطنات إسرائيلية حسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، وهو من يقود الهرولة الأمريكية إلى إسرائيل وفق خطة الحل النهائي أو “الصفقة النهائية” لصراع الشرق الأوسط من أجل التركيز على قضايا أخرى مثل وضع حد لطموحات إيران النووية ومواجهة الإيديولوجيا المتطرفة. وهي الخطة الأمريكية التي لم تكتمل بعد والتي تبدأ من اعتراف أمريكا بدولة فلسطين على أجزاء متقطعة من الضفة الغربية وبدون القدس الشرقية، وتكون بلدة أبوديس التي يفصلها الجدار العازل عن القدس عاصمة لفلسطين، في حين يوافق الطرف الفلسطيني على بقاء العديد من المستوطنات الإسرائيلية التي كانت الأمم المتحدة قد طالبت بإيقاف بنائها و”إلغاء التدابير المتخذة لتغيير وضع مدينة القدس في قرارات عدة”، ويتنازل الفلسطينيون عن حق العودة. الوضع العربي لا يمنع حدوث أي شيء من ذلك وأحداث العالم العربي ظلت سيئة لبعض الوقت، لكنها لحسن الحظ آخذة في التحسن: العراق يسترد وحدته في ظل حكومة مركزية، كما تم دحر المعارضة في سوريا، وها هي تستعد للإتفاق وإلغاء الشروط المسبقة والتفاوض المباشر مع الوفد الحكومي، وقد تأكد الحسم العسكري لصالح الأسد، والجهود حثيثة لتوقيع سلام نهائي في ليبيا رغم وجود أكثر من 170تنظيما متطرفا، وخلق هدنة طويلة مع إيران، وتركيا تتلمس آثار العثمانيين تحت زعامة أردوغان، ومنطقة الخليج تشهد غليانا داخليا قد يسفر عن نتائج أخرى غير متوقعة. الوضع في طور التحسن خلال العقدين المقبلين، وهذا ما جعل ترامب يعتقد الآن أن الوقت بات ناضجا كما يتخوف الإسرائليون من أن تذهب ثمرة الربيع العربي هباء مع أي تأخير خاصة أن النزاع حول فلسطين فقد -في السنوات الماضية بالنسبة إلى العالم العربي- بعضا من أهميته ولم يعد يشكل أولوية قصوى بالنسبة لهم خاصة السعودية ومصر. كانت إسرائيل قد استفادت لقرابة العقد من انشغال العرب في أوضاعهم وصراعاتهم الداخلية لكي تضاعف من سياسة الاستبطان التي لن تسمح بحل الدولتين. البلدان القائدان، مصر والسعودية، قبلا ذلك ضمنيا لأن إسرائيل هي الأقوى في النزاع ولأنها ليست “العدو الأول”، وبقى السؤال المطروح: هل يقبلان على أن شمال شبه جزيرة سيناء هو امتداد طبيعي للضفة وصالح لأن يتم إعداده كبلد بديل لفلسطين؟.
قليلا للوراء
لم يكن قرار ترامب مفاجئا بالنسبة للسياق العام للأحداث، فمن المعروف أن إسرائيل حاولت منذ اندلاع غزو العراق أن تشارك في الحرب أو تقوم ببعض العمليات العسكرية، وقد تم وقفها مقابل شيء ما. لم يدرك العرب ما هو ذلك الشيء حينها، لكن ذلك الشيء هو تدمير العراق نهائيا مع بقاء بعض الحجج أولا ثم أشياء أخرى في المقام الثاني. كان ذلك بمثابة إزاحة جزء كبير من العقبة، لكنه لم يفتح كامل الطريق أمام “إسرائيل الكبرى” لأنه جاء بمعطيات جديدة على الأرض. لقد أصبحت الولايات المتحدة نفسها تريد الخروج من أرض الدمار بصعوبات جمة، وحاولت -وهي من يحلو لها دائما أن تظل زعيمة العالم الحر- أن تغسل وجهها الملطخ بدماء حرب بربرية همجية لا سند شرعي أو أخلاقي لها. لقد استهدفت المشافي ومحطات الكهرباء وكل البنية التحتية وحتي الآثار التاريخية مع سيل من الفضائح ملأ الأفق حول النهب والعقود الفاسدة والتعذيب الفاضح مثل سجن أبو غريب. لكن الأشد فتكا بالمشروع هو ملْء إيران لفراغ الدولة المركزية في العراق وحصولها على مركز القوة في سوريا وتوغلها في المشهد الفلسطيني واللبناني من خلال حماس وحزب الله. كانت مهمة الرئيس الأمريكي الذي جاء بعد الحرب أن يوقف الأشياء الأخرى التي تتعلق بإسرائيل حتى تعود، والولايات المتحدة، لسابق عهدها بين الأمم، فقد أوشكت تلك الحرب أن تخلق حربا باردة جديدة، فقد صارت الصين وروسيا والهند والأرجنتين وجنوب إفريقيا وإيران وتركيا وفينيزويلا على خط واحد. هذا الخط بدأ يوحد مشاعر عالمية ضد الغرب، وبدأت الحقائق التي تقف وراء الحرب تظهر جليا للعالم، وكانت أمريكا بحق تلعب دور الشيطان الأكبر في العالم. كان ذلك يضايق الأمريكيين لكن إسرائيل لم تكترث لذلك بل تشنجت كثيرا وحاولت أن تتحدى العالم وتغير بمفردها بعض الحقائق على الأرض الفلسطينية (بناء الجدار العازل، وتوسيع المستوطنات داخل الأراضي العربية خاصة القدس الشرقية، والتراجع عن حل الدولتين وعن حق العودة وغيرها). ظلت الولايات المتحدة تحاول تطوير تعاونها الاقتصادي والعسكري مع إسرائيل مقابل التلكؤ في تحقيق الشيء الآخر أو التغطية الكاملة على إسرائيل. وهكذا تم انتخاب أوباما: أستاذ أكاديمي يملك خلفية أيديولوجية عالمة. لقد كان مهما في ذلك التوقيت ليخلق أولويات جديدة وإسكات طبول الحرب المستعرة باستمرار والبحث عن دور الريادة للولايات المتحدة في ساحات ومحافل أخري غير الحرب، ومع ذلك كادت لا تظهر بوادر تحسن النظرة إلى السياسة الأمريكية بالمنطقة، و”لم تنظر الدول العربية بشيء من الود لسياسة أوبوما في الشرق الأسط” حسب ستيفن سبيغل مدير مركز تطوير الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا.
لم تستعد الولايات المتحدة مصداقيتها كراع رئيسي، لكنها بحكم الواقع ظلت المحرك الكبير لملفات كثيرة في أماكن النزاعات وظلت تملك ملفا مهيمنا في الدرج هو ملف إسرائيل الكبرى. ظل الشرق الأوسط، رغم كل ذلك، يلتهب، وأمسى الوضع شديد الإرباك. بدأت الشكوك تدب في النوايا الأوروبية بصفة عامة اتجاه أمريكا خاصة بعد فوز ترامب ومن أنه فتح الباب لدول جديدة للدخول في منطقة الشرق الأوسط مثل تركيا وإيران روسيا، لكن في الحقيقة لم تعد روسيا مستعدة لأن تشرب كأس الهزيمة مرة أخرى في سوريا بعدما تم تدمير حليفتها ليبيا، لكن الولايات المتحدة مجبرة على الدخول بكامل قوتها في المنطقة وملء الفراغ الاستراتيجي ضد الوجود الروسي الكبير، وقد ازداد ظهور مؤشرات كبرى للغاز فيها ولا تملك منفذا استراتيجيا على البحر الأحمر سوى سوريا، وهو نفس المنفذ الذي تطمع فيه حليفتها قطر، وقد حاولت بواسطة فرنسا مرات مع بشار الأسد دون جدوى. إن فرنسا وآلمانيا وبريطانيا لا توافق على السياسية الأمريكية الجديدة في العالم، كما أنها منزعجة من أن ينظر إليها بعين التبعية وقد غضبت من تصريح كيسنجر في الشأن. وهي اليوم تجد في القرار الأحادي لاترامب نوعا من الغطرسة وتجاوزا لأوروبا. إنه موقف لمصلحة القضية الفلسطينية، لكن كيف يمكن استغلاله والدول العربية الكبرى ترزح تحت تنسيق عميق وغير متكافئ مع الولايات المتحدة الأمريكية؟. إن الوضع العالمي اليوم متوتر بصفة عامة وقد يصب في مصلحة العرب، فلم تعد أسباب التوحد تلك الأسباب التقليدية وحدها (الدين والمصالح والإيديولوجيا…) لكن اليوم هناك المشاعر الإنسانية خاصة أن أوروبا لم تعد تملك إلتزاما اتجاه أحد مع ظهور قادة جدد من الشباب، فكم سيدوم ذلك الوضع؟ وهل سيتولد المخاض العربي عن تغييرات مهمة إن لم تكن في الأنظمة ففي العقليات والأساليب؟. وفي جميع الأحوال شكرا لاترامب الذي هز الوضع لتتحرك القضية الفلسطينية وتحتل واجهة الأحداث بشكل خلق تعاطفا جديدا وواسعا معها بعدما أوشكت على النسيان، وتم التعاطي معها من خارج فلكها وأمتها، ومن تداعياته الموقف الأوربي الموحد والعلني، وانعقاد قمة إسلامية بحماس وسرعة ملفتين هذه المرة بمبادرة غير عربية.. القمة العاجلة حول القدس، رغم مقاطعة دول عربية وازنة، كانت قمة في التاريخ وفي الوقت كردة فعل في مستوى الحدث، وأظهرت حجم التعاطف من خارج العرب ومن خارج المسلمين، وقد عبرت عن ضمير إسلامي حي، واتخذت قرارات إجماعيه هامة وصريحة، وخلقت مواجهة في السياسة والإعلام وفي مصلحة القضية الفلسطينية.. وللأسف لم تشارك السعودية ولا الإمارات في هذا الحدث، لكن حضرت الكويت.

محمد محمود ولد بكار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى