مقالات

نهوضا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه! بقلم محمد عبد الودود الداهي الملقب السود

دخلت موريتانيا القرن 21 تحت مظلة الدكتاتورية وبدا مصيرها يتقدم بوتيرة سريعة نحو اتجاهات متباينة. وهكذا ففي سنوات 2003-2004 و2005 تمخضت عدة محاولات انقلابية عن نظام عسكري انتقالي تعهد أول ما تعهد بتنظيم انتخابات عادلة وشفافة والقضاء على أخذ السلطة بالقوة. وهكذا انطلق الإطار الذي تمت فيه إعادة تشكيل المجتمع: تمكن الموريتانيون بعد 45 سنة من الاستقلال أن يختاروا بصورة ديمقراطية وفي إطار تنافس عادل وشفاف الرجال السياسيين الذين تقع على كاهلهم إدارة وتسيير البلد: عمد وشيوخ ونواب ورئيس للجمهورية.

واستغرق شهر العسل بين البلد ونخبه رغم كثير من الصدامات والشكوك بين رجال السياسة والعسكريين؛ وخلال “ثلاث سنوات طوال” وهي الفترة التي تجاوزنا منها من حلم راودنا في مجتمع ديمقراطي متصالح مع نفسه ومع كل المكونات ومتوجه نحو المستقبل والتوزيع المنصف لثروة وطنية كبرى ظلت وإلى الآن مسرحا للنهب ومتمركزة في بعض الدوائر القليلة، إلى عودة مخيفة للجان العسكرية في أغسطس 2008 وللسحر البياني الديباغوجي والتعهدات بإنقاذ وتصحيح المنزلقات أيا كان نوعها!

وتحول الحلم الوجيز المدة ابتداء من أغسطس 2008 إلى كابوس سياسي حقيقي؛ فمنذ ذلك التاريخ مر البلد بدكار وحلوله التي لم يكتب لها التعمير، فانتخابات 2009 و2013 وما شابها من الشكوك في التزوير، فانتخابات الشيوخ المتوقفة، ثم محاربة الإرهاب التي لا تهدف – في الحقيقة – إلا إلى إرهاب الغربيين بغية استغلالهم أحسن استغلال، ثم جاءت محاربة الرشوة التي لا تبصر عينها سوى المعارضين، وبعصى سحرية، ولدت طبقة من الأثرياء قوامها مجهولون بارزون لا ماضي لهم وليس لهم قطعا مستقبل، وهلم جرا فاللائحة تطول.

إن البلد لم يعرف قط ما يعرفه الآن من انقسام سياسي وبروز للشخصنة بكل أنواعها وغليان اجتماعي لا منتهي. لنعود – مثلا إلى حقبة شركة المناجم “ميفرما MIFERMA” لنرى عمالا يبحثون عن خبزهم وسر بقائهم، عمالا أضرموا النيران في مدينة ازويرات كما كانت الحالة سنة 2012، وتلك تحركات أصبحت معتادة من الحمالين في ميناءي انواكشوط وانواذيبو، تلك حركات الإضراب ومطالبات من وكلاء الوظيفة العمومية ولنذكر كذلك الاعتصامات أمام القصر الرئاسي التي تنجر عنها في بعض الأحيان ملابسات ادراماتيكية تطال الأرواح البشرية.

أما قضية لحراطين، فقد اتخذت بعدا جديدا مع تفاقم تطرف المتطرفين الذين بإمكانهم في أي وقت أن يعيثوا بالوضعية فسادا بينما القضية قضية وطنية يجب أن تعالج على أساس العدالة والإنصاف بين المواطنين، وذلك بإيجاد حل لصالح هذه الفئة المظلومة منذ وقت طويل طبقا للإجراءات القانونية والتشريعية وإيجاد آليات تطبيقية لهذه الإجراءات تؤازرها برامج تمكن من تقاسم جيد للسلطتين السياسية والقضائية ومن إعادة توزيع الثروات الوطنية والولوج السريع إلى التعليم؛ وبالتالي التمكن القضاء النهائي على كل أثر للعبودية عبر ورقة طريق واضحة يتم إعدادها بواسطة تشاور عريض.

ولنتحدث بجدية وصراحة عن هذه القضية التي بدأت تنخر علاقات مكونات الفئة العربية في البلد (البيظان ولحراطين) جاعلة بذلك وجود البلد والسكان في خطر محدق.

إن النزاعات المتعلقة بتقاسم الحكم والثروات الوطنية تعود إلى فترة ضاربة في التاريخ؛ وسنتوقف هنا فقط عند التذكير بثورة اسبارطه (SPARTACUS) وتبعاتها التي هلهلت حكم أباطرة رومانيين ولنذكر كذلك ثورة عبيد هايتي بقيادة توسان لوفرتير (TOUSSAINT LOUVERTURE) وإلغاء العبودية سنة 1848 وثورة السكان الزنوج في الولايات المتحدة ضد العنصرية والظلم بشتى أنواعه وما خلف ذلك من ثمن وخسائر على المجتمع الأمريكي، ولا بد من ذكر الثورة الحديثة التي قام بها الزنوج في إفريقيا الجنوبية ضد حكم الآبارتايد وتبعاته وما نتج عن ذلك من تراتبية للمواطنين البيض في مراكز القرار ضمن الحكم السياسي.

إن كل هذه الأمثلة من شأنها أن تخدمنا وذلك بدق ناقوس الخطر لتذكيرنا بما ينتظر بلدنا إذا لم نكن شجعانا ومتبصرين وملتزمين بمقاربة جديدة حول تقاسم الحكم السياسي والثروات الوطنية، مقاربة تعتمد على الحقائق الاجتماعية والديموغرافية، كما على تنظيم حان وقته لمجتمع ديمقراطي وعادل.

ماذا كنا سنخسر لو أن مجموعة لحراطين كانت ممثلة بعدالة في كل مؤسسات البلد والمراكز المهمة السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية؟ بالقطع قد نخسر وظائف ومكانات ولكننا سنربح مقابل ذلك مجتمعا مستقرا موحدا ومشرئبا نحو مستقبل واحد.

ثمة بلدان أقوى من بلدنا وعرفت قبلنا تنظيم الدولة تمكنت من إرساء وتوطيد وحدتها الوطنية وذلك بأن أخذت في الحسبان كل خصوصياتها في إطار الدولة المركزية: لبنان في العالم العربي وإفريقيا الجنوبية من القارة السمراء لنذكر فقط ذينك البلدين الغاليين والقريبين.

ولسوء الحظ، فإن قضية لحراطين تطرح نفسها اليوم في سياق وضعية سياسية باهتة تطبعها محاولات حوار بين السلطة ومعارضيها، ولم تسفر عن جديد سوى تعميق الريبة وعدم الثقة بين الفاعلين السياسيين، وأكبر دليل على ذلك هي المحاولة الراهنة بين السلطة وأقطاب المعارضة التي هي أشبه ما تكون بحوار الطرشان. وقد أدى الحوار الذي دار بين السلطة والمعارضة المحاورة والذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة سنة 2012 إلى انتخابات 2013 التي تعرضت في مجرياتها ونتائجها إلى انتقادات لاذعة من لدن كل الأطراف التي شاركت فيها، حتى إن بعضهم وصفها بالانتخابات الأقل شفافية التي عرفتها البلاد.

إن الانتخابات الأخيرة، فضلا عن كون منسقية الأحزاب السياسية المعارضة قد قاطعتها، الأمر الذي يقلص قيمتها بصورة كبيرة، أبرزت نهارا جهارا التناقضات الخطيرة للنظام السياسي الحاكم الذي من المفترض أن يكون متلاحما ومتماسكا والذي قام بعض من مسؤوليه بإعداد وتمويل لوائح معارضة (فازت في معظمها) على لوائح حزبهم، ولنسق كأمثلة مقاطعات كرو والمذرذرة وانبيكت لحواش وتلك لعمري أمثلة دامغة. زد على ذلك أن بعض المعاقل التقليدية للمخزن تساقطت في أيدي معارضة؛ ولا أدل على ذلك من أن بعض بلديات الشرق الموريتاني وخاصة بلدية النعمة التي ترمز لهذا التحدي للسلطة المركزية التي ظلت إلى وقت قريب ترغب وترهب. إن كل هذه التجليات لتبرهن على أزمة مجتمعية كبيرة وعلى انفصام العرى التي كانت سندا ومصححا لهذه التناقضات.

وفي غالب الظن أن الانتخابات الرئاسية المزمع القيام بها على الأقل نظريا في 21 يونيو القادم، بدل أن تلطف من المناخ السياسي قد تشكل مرحلة تجاذبات وتوتر جديد، وذلك ما لن يساعد قطعا في وعي ضرورة إيجاد حلول لمشكلة لحراطين. واليوم، أكثر من أي وقت مضى – وإزاء هذه الوضعية – فإن الضمير الوطني يهيب بكل المواطنين بغض النظر عن اصطفافهم السياسي، إلى رص الصفوف والعمل حثيثا بغية إعادة النظر في إشكالية لحراطين والقيام إثر ذلك بالبحث عن حلول عادلة ومتفق عليها للقضايا التي تطرحها العبودية؛ إن هذا الأمر لا ينقص من كرامة الطبقات الحاكمة الحالية بل يشكل البديل الحقيقي عن المنزلق الذي قد تقذفنا فيه الوضعية الراهنة.

محمد عبد الودود الداهي الملقب السود

إداري من السلك المالي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى