مقالات

مسرحية تينيكي.. سفاهة التسوّل بنكء الجراح

عندما طال عليهم الأمد تفتقت ذهنيتهم عن تمتين الأواصر مع الأثرياء العائدين إلى حضن القبيلة بحثا عن المنعة في وجه القانون. مبدئيا، ليس في الأمر من غرابة ولا غضاضة، فأطماع الساسة ومصالح الأثرياء تتزاوج في الغالب، وسوس هؤلاء وأولئك ينخر القبيلة والدولة على حد السواء. لكن السياسيين جاوزوا المدى، عندما زينت لهم مصالحهم الضيّقة أن يطلّوا على المناصب من نافذة التاريخ، فنكأوا الجراح واستدعوا الحساسيات وكفروا بالدولة في وضح النهار. فخامة رئيس الجمهورية إن فكرة إحياء تينيكي قضية سياسية بحتة يسعى أصحابها لتلميع أنفسهم بالعودة لمسرح الفناء وسرد حكايات الخراب والموت.

(1) إنهم يغالطونكم، ويتجاهلون أن رمزية تينيكي التاريخية سقطت عندما احتكم أهلها للسلاح، فتفانوا ودقو بينهم عطر منشم. إن أهل تينيكي بغى بعضهم على بعض: أيديهمُ قطعت أيديهم سفها. وإنه لا يُقبل توظيف الدولة في تأجيج الأحقاد داخل مجتمع معين استجابة لهوس البعض بالأضواء.

(2) إحياء المدن وترميمها مسؤولية الدولة، ولا يستساغ أن تضطلع الحكومة بهذه المهمة استجابة لقبيلة معينة، خصوصا وأن القبائل الأخرى لها أمجادها وكتبها وتاريخها وسيتعين إرضاؤها عندما ترفع مطالب فئوية على هذا النحو. وإن بلدا تتنازعه أهواء العرقية والطبقية وتقض مضاجعه رواسب العبودية، في غنى عن بناء المدن وإقامة المهرجانات تحت اليافطات القبلية.

(3) لقد تجاوز مجتمع تينيكي نكبة الاقتتال الداخلي فبنى جيوشا وأقام حواضر ومدنا كانوا فيها رحماء بينهم أشداء على غيرهم. وهذه الحقبة اللاحقة (تكبة مثلا) أولى قطعا بالاهتمام من القفز إلى تلك المشؤومة، اللهم إلا إذا كان الهدف هو الاحتفاء بالتراث المجاور للثراء.

(4) ثم إن المجتمع لم يخول أحدا بنبش الحقد والثأر المدفونين في تينيكي. فما نعلمه أن الكبار يتحاشون ذكر اسمها أصلا، إذ ترمز للشؤم والخراب وقطع الرحم. وهذا يؤكد أن الممثلين في المسرحية فريقان: متسيسون يعبثون بالتاريخ والسلم ورمزية الدولة من أجل منافع شخصية بحتة، وأناس طيبون انخدعوا لمّا قيل لهم هلموا لمجد آبائكم..

(5) واجب الدولة إذن ردع الفريق الأول بدل التساوق مع مشاريع الفتنة وتفيئة التاريخ والتراث والعمران. وواجبنا تنوير الفريق الثاني بمكمن التدليس وخطورة دس السم في العسل. ونقول لهم: إنه لا ناقة لكم فيها ولا جمل: هذا ذهب لدنياً يصيبها وذلك بحثا عن وظيفة يشغلها…. (6) التمثيلية غير مقنعة أبدا، وتواضع الأداء يعري غايات القائمين عليها، فلم يشيّدوا مسجدا ولا مكتبة ولم يحفروا بئرا أو يغرسوا فسيلة، رغم أنهم أعلنوا عن أنفسهم قبل خمس سنوات. نعلم أن الفكرة أنقذت البعض من ضوائقهم وانتشلت آخرين من البوار فدرت عليهم ما يعفيهم من مغالبة الدنيا، ولكن لا علاقة لهذا بحواضر العلم ونوادي الثقافة وأمهات الكتب.

(7) يقول هؤلاء إن الحميّة للعلم والثقافة أيقظتهم فاستنفروا خاصتهم من آفطوط واركيبة إلى أقاصي آدرار. نحن لا نكذبهم. ولكن تبديد المال على الكرنفالات العشائرية والسمر على الحفلات الموسيقية لا يجسد العلاقة بالعلم ولا يناسب الانتماء لمجتمع عرف رجاله بأنهم رهبان بالليل فرسان بالنهار.

(8 ) إن تينيكي تتبع إداريا لمقاطعة شنقيطي. ولكن الباحثين عن إحيائها لم يحضروا المهرجان الذي استضافته (شنقيطي) العام قبل الماضي. وهذا يعني أن أصحابنا حجوا لوادان فقط لغايات هم أعلم بها. لا أحد ينكر عليهم الحق في ذلك، نريد منهم فقط عدم الزج بتاريخنا وتراثنا وحروبنا في مطامعهم وأهوائهم.

(9) على مدى قرون عديدة ضُربت تينيكي مثالا للدمار الشامل: (أخرب من تينيكي).

وما دامت “الأمثال لا تكذب”، فإنه من السذاجة توقع استقرار أي كان في رحاب الضياع: نائي المؤنّس والعوّاد والآسي…

(10) إن فكرة تينيكي تلقفتها بعض دول الجوار وضخت فيها المال بحثا عن ساحة نفوذ جديدة في الشمال الموريتاني. وعندما تواصل معي أناس من الجزائر والمغرب حول الفكرة أوضحت لهم سفاهتها وعبثيتها. ولفتّ انتباههم إلى أن هذا المجتمع راكم المجد في المشرقين على مر التاريخ، وأنه في غنى عن تراث يبعثه العانسون من الساسة وسماسرة العقارات وسعاة الضرائب. تلك عشرة كاملة.

**سيد أحمد الخضر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى