مقالات

“يَوْمِيَّاتُ” الحِوَارِ المُنْتَظَرِ… “كالحَمًامٌ الإِسْكُوتْلَنْدِي”

غريب أمر الحوار السياسي الموريتاني الذي يطالب به الجميع موالاة و معارضة جِهَارًا نهارا كما يُسِرُ بعضهم إلي بعض القول بأنه الطريق الشرعي،الممكن، الأوحد و الوحيد إلي تطبيع المشهد السياسي الوطني و استعادة الثقة بين “الخُلَطَاءِ السياسيين”.
و مع ذلك يعجز قادة الرأي مِنًا و “المُوَقعُونَ عَنًا” فَيَرْسَبُونَ مرات عديدة في امتحانات الجلوس إلي طاولة واحدة ابتغاء منافسة و مبارزة الأفكار و الآراء و المشاريع المجتمعية مُفَضِلِينَ الاستسلام “للكَسَلِ الذِهْنِيِ” و التسلي بلعبة مُحَاكَمَةِ النِيًاتِ و توهم اكتشاف و إفشال المؤامرات “الصًدِيقَةِ و غَيْرِ الصًدِيقَةِ”.
فالمتابع ليوميات “الحوار السياسي المنتظر” منذ دعوة رئيس الجمهورية له خلال المناسبة الكريمة للمولد النبوي الشريف العام الماضي يَحْسَبُ أنه داخل “حَمًامٍ إِسْكُوتْلَنْدِي” فتارة تَنْشَرِحُ نفسُه مثلا بالتصريحات الافتتاحية “الناعمة” للرئيس الدوري الجديد للمنتدي الوطني للديمقراطية و الوحدة و ردات الفعل “القَوْلِيًةِ و الفِعْلِيًةِ” العاجلة، الواثقة و المُطَمْئِنَةِ من طرف القائمين علي ملف الحوار السياسي من قطب الأغلبية.
ثم ما يَلْبَثُ أن يَضِيقَ صدرُه عاجلا بإعلاناتٍ وتسريباتٍ و “صَالُونِيًاتٍ”،… ساخنةٍ، مُنَفِرَةٍ و متشائمةٍ منسوبةٍ لفاعلين كبار من قطبي المعارضة و الموالاة يُفْتَرَضُ أنهم لا “يُوحُونَ” بالتسريبات و لا يُصدرون التصريحات و لا يُلْقُونَ الكلمات علي عَوَاهِنِهَا.
و قد أدت ظاهرة “الحمام الإسكوتلندي” بخصوص الحوار السياسي إلي إِرْبَاكِ الرأي العام الوطني و إصابته “بالدًوْخَةِ السياسية” حتي لم يعد يَسْتَبِينُ المسؤولَ عن إعاقة و تعطيل الحوار و إن أضحي مقتنعا أكثر من أي وقت مضي بأن أسباب تعطيل و تَزْحِيفِ و تَبْطِيئِ الحوار السياسي و سياسة قتل الوقت يُفَتًشُ عنها في المصالح الانتخابية و غير الانتخابية الضيقة لثلة قليلة من القائمين علي الشأن الوطني من جناحي الموالاة و المعارضة. وأكاد أجزم أنه لو وُجِدَتْ في بلادنا مراكز علمية دقيقة ذات مصداقية لقياسات نبض الرأي العام لَصَدَعَتْ بهُبُوطٍ سَحِيقٍ لمؤشرات المساندة و المناصرة الشعبية للقادة السياسيين عموما و تحميلهم مسؤولية “تَأْبِيدِ و تسخين التجاذب السياسي” و لَأَنْذَرَتْ باستعجال الموريتانيين لطي صفحة حالة ما يمكن وصفه “باللاًتَفَاهُمْ السِيًاسِي” بين الموالاة و المعارضة عبر اتخاذ كامل الإجراءات الضامنة لتنظيم انتخابات مشهود لها “بالطًهَارَةِ الإِنْتِخَابِيًةِ” يَطْمَئِنُ و يُهنئ بها المَغْلُوبُ الغَالِبَ متطلعا و واثقا من حظوظ أفضل خلال “الدًوْرِيِ الإنْتِخَابِي القابِلِ”.
و ذات حديث مسائي حول شاي موريتاني “مكتمل الأَشْرَاطِ و الشُرُوطِ،” حملتُ هموم و شواغل “حوار الحمام الإسكوتلندي” إلي أحد خبراء وعقلاء و رشداء و حكماء البلد المؤمنين بهذا الوطن و الذين لم يغادروه و لم يهاجروا عنه،إلا لِسَفَرٍ علمي قَاصِدٍ، رغم جَمْرِ الإقصاء و التهميش و الاستهزاء فأخبرني أن الحوارات السياسية في الدول العربية و الإفريقية لا يُكْتَبُ لها التوفيق غالبا إلا بوجود “مُسَهِل” داخلي عاَلِيِ المصداقية العلمية و المناصرة الجماهيرية و هو أمر مطلوب و مرغوب أو باستيراد “مُتَدَخِلٍ” خارجي وازنٍ و قويٍ التأثير وتلك وَصْمَةُ عار ينبغي أن لا تكون إلا كَالكَيِ الذي هو آخر الدواء.
و تابع محدثي بنبرة متفائلة و واثقة بأن أهم معوقات الحوار السياسي في بلادنا هي الدور الغائب “للمجتمع المدني الأصيل” الذي هو أحد الأركان الركينة للديمقراطية الناصعة و أقواها تماسكا و أنفعها تأثيرا إبان الانسدادات السياسية مستدركا بأن غالبية المنظمات المدنية ببلادنا ولدت ولادة “غير طبيعية” و هي أقرب إلي عدم الجدية و المَسْحَةِ الفولكلورية و نقص الأهلية و أجدر أن تدعي “المُجْتَمَع الدُمْيَاتِي” المعهود للزينة و التجميل الديمقراطي .
و لم يقلل صاحبي من شأن ظهور مبادرات من المجتمع المدني تسعي إلي تقريب وجهات النظر و الاضطلاع بدور الراعي أو المسهل للحوار السياسي بين خلطاء الشأن السياسي كمبادرة العلماء و الفقهاء و الدعاة و المسعي الوطني المكون من هيآت نقابية ومراكز بحثية و شخصيات مستقلة و الذي تم تأسيسه مؤخرا و اعتبر ذلك علامات و بشائر يقظة نخبوية الوطنُ في أمس الحاجة إليها ذلك أن إحدي أهم معوقات التفاهم السياسي ببلادنا تبقي دائما كما بين سالفا غياب مجتمع مدني أصيل مكون من شخصيات مجمع علي مصداقيتها و كفاءتها و قوتها و أمانتها و حِيَاِدِهَا…
و في ختام الشاي المسائي بدا محدثي واثقا من مستقبل سياسي هادي و واعد للبلد مُتًكِئًا في ذلك علي رجاحة الانضباط الإسلامي و العقل المدني للإنسان الموريتاني مُوصِيًا و مشددا علي ضرورة إنشاء ” مركز وطني لترقية ثقافة الحوار و الوقاية من الصراعات”.
و يجدر أن يُؤَسًسَ المركز حصرا من طرف شخصيات وطنية قليلة العدد مُجْمَعٍ علي كفاءتها العلمية الناصعة و حيادها السياسي الوضاء و إشعاعها الدولي اللامع تكاد تكون معروفة لدي الجميع بأسمائها و وُسُومِهَا منها من هو مقيم بالمِهْجَرِ و منها من هو “مُرَاِبٌط” بالمَحْضَرِ و ذلك بهدف اضطلاع المركز المنشود بدور مجموعة أو “منصة ضغط” مدنية مُوَجِهَةٍ للرأي العام إلي دعم خيار و مسار الحوار و جاهزةٍ للاضطلاع بدور “المُسَهِلِ الداخلي” الموصوف سابقا عند الاقتضاء.

المختار ولد داهي ، سفير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى