مقالات

حاجة موريتانيا إلي “أَدْمِغَتِها المُهَاجِرَةِ”!!

كان لي موعد يوم أمس مع أحد مديري القنوات التلفزيونية الخاصة فلما دخلت عليه مكتبه استقبلني بوجهه البشوش وطلب مني الانتظار قليلا علي مقاعد مكتبه فقد انتبذ منه ركنا قصيا غارقا في كتابة وتصحيح بعض التقارير مناديا عَلَيً كل بضعَ دقائق بالصبر والمعذرة شارحا بأنه يضع اللمسات الأخيرة علي تحرير نصوص إعلامية عاجلة وتصحيح وتنقيح أخري.
فلما سألته السؤال المجاملاتي عن ظروف العمل أجابني بأنه حَبِيسُ جدران قاعات الاجتماعات والتحرير لا يجد وقتا للتفكير الاستراتجي المطلوب من المدير العام لقناة تلفزيونية موريتانية حُرًةٍ ناشئةٍ بحاجة إلي التفكير في استراتجية عملٍ و تطويرٍ علي المَدَيَيْنِ القريب والمتوسط مستدركا إعجابه بمستوي استعداد وتضحية وكفاءة فريق عمله القليل عددا شاكيا من العجز عن إثرائه بعناصر جديدة بفعل ندرة المصادر البشرية الكَفُوءَةِ في سوق العمل!!
وقبل ذلك بيومين شكا لي من عَنً لي أن ألقبه دائما “بالصندوق الأسود” للإدارة الموريتانية -إذ هو مستودع الكفاءة و الحيوية والتجربة- من الانهيار الشديد لمستويات المصادر البشرية كفاءة وأمانة إلي حد اضطراره أحيانا إلي الاستغناء عن خدمات العديد من الشباب الحاملين لألقاب و”أَسْفَارِ” درجة الدكتوراة حين بدا له عجزهم المتكرر عن تحرير رسالة إدارية سليمة المبني والمعني لا تتجاوز في المتوسط فقرتين مكونتين من بضعة أسطر بلغة تكوينهم الأصلي!!.
وقد صادف أن قرأت منذ أيام قليلة خبرا يستفسر فيه أحد كبار المسؤولين العرب أحد مساعديه من العقول الموريتانية المهاجرة عن سبب التميز العلمي والمهني لكل الموريتانيين الذين حظي بلقائهم ومعرفتهم بالخارج. ومن غير شك أن صاحبنا أجاب صاحبه بأن البيئة المهنية والأخلاقية والاقتصادية ببلادنا رَاغِبَةٌ عن الكفاءات طَارِدَةٌ لها لذلك فإنه إنما يُهاجر من الموريتانيين الهجرةَ المهنيةَ الدُرَر اللًوَامِعُ والأكفاء الأفذاذ!!
فلما تزاحمت في ذهني أخبار وأفكار التدهور الشديد للمستويات العلمية والأخلاقية لغالبية لمصادر البشرية “العَامِلَةِ” Ressources Humaines Actives والمصادر البشرية “الإِحْتِيًاطِيًةِ” Ressources Humaines de Reserve المتواجدة ببلادنا والألمعية والنجومية التي تحققها مصادرنا البشرية المهاجرة وجدتني أردد بصوت عال خارج من أعماق القلب لَفَتَ انتباه مَلَإٍ من حولي أَنْ ما في العالم أحوج من موريتانيا إلي”أدمعتها المهاجرة”.!!
ولَمًا حملتُ همومي إلي بعض مَظَانِ العقل والتجربة تواتروا على أن الأغلبية الغالبة من الكفاءات العلمية والفنية اللامعة تعمل فعلا خارج البلد بالمنظمات والبنوك والصناديق الدولية أو الإقليمية أو بالجامعات والمراكز البحثية ومكاتب الاستشارات الدولية والهيآت الإدارية والقضائية ببعض “دُوًلِ الجَارِ ذِي القُرْبَي” و”دُوًلِ الجَارِ الجُنُبِ”.
كما أكدوا أن تلك النخب الوطنية المهاجرة ساهمت مساهمات كبيرة في النهضة العلمية و الإدارية و السياسية و الاقتصادية و القضائية،… للعديد من دول العالم وأن أغلبها خرج من الديار “مُكْرَهًا لا بَطَلًا” وزاد أحدهم أن من لم يخرج من النخب المتميزة من الديار ينقسم إلي قسمين قسم حَبَستْهُ ظروف اجتماعية قاهرة خارجة عن الإرادة و آخرُ حَازِمٌ لأَمْتِعَتهِ متأهبٌ و متحينٌ لفرص مناسبة.!!
ولعل من أخطر تداعيات الهجرة الكبيرة للأدمغة الموريتانية التي تَحُزُ في النفس و تُنَغِصُ العيش و تُشَكِكُ في المستقبل و تستنهض هِمَمَ و نُخْوَةَ كل “مُعْتَصِمٍ موريتاني” ما هو ملاحظ في هذا البلد منذ ما يزيد علي أربعة عقود علي الأقل من كون أغلب الاستشارات والمقاربات وأمهات السياسات “تُطْبَخُ” في مَطَابِخِ ومكاتب الاستشارات الأجنبية ومن المعلوم أن لا خير في أمة تفكر من وراء الحدود!!!

المختار ولد داهي ، سفير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى