
إن صراع الفلسطينيين مع دولة الاحتلال الصهيوني الاستعمارية والاستيطانية ليس صراع وجود، بل صراع حدود. فالمقاومة الفلسطينية هي حركة تحرر وطني بحت، شأنها في ذلك شأن كل حركات التحرر في الجزائر، وفيتنام، وجنوب إفريقيا، وغيرها.
كما أن هذا الصراع ليس صراعا دينيا عقائديا، وإلا لما كنا لنرى في عصرنا الحديث دولا عديدة في العالم، شرقا وغربا، تتعايش فيها الأديان دون أزمات كبيرة. أما تاريخيا، فقد شكلت فترة دولة الأندلس، بإجماع المؤرخين، أعظم نموذج للدولة الفاضلة في التعايش السلمي والخلاق بين مختلف الديانات السماوية.
للوقوف على المسار السياسي للقضية الفلسطينية وتطورها التاريخي، يجدر بالعالم أن يسجل أن مبادرة السلام العربية، التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز -رحمه الله- حين كان وليا للعهد في القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002، شكلت إطارا سياسيا صلبا وسليما، ومتناسقا مع القرارات الدولية والشرعية، لإيجاد حل عادل ودائم للقضية. وهي المبادرة ذاتها التي ظل العمل الدبلوماسي العربي، على مدى العقدين الماضيين، يسعى لحشد التأييد الأوروبي والدولي لها، دون أن يقابل ذلك أي تيار سياسي إسرائيلي يتعاطى بإيجابية مع هذه المبادرة المتوازنة، ذات الأبعاد التاريخية والاستراتيجية والحضارية، والتي تربط التطبيع مع إسرائيل على جميع الصعد بالعودة إلى حدود حزيران 1967 وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
ويُذكر هنا أن هذه المبادرة حظيت بتأييد الصحفي المخضرم والخبير بشؤون الشرق الأوسط، اليهودي توماس فريدمان، علّ ذلك يُسكت بعض الصهاينة اليمينيين.
إن المعضلة الكبرى التي يواجهها المجتمع الدولي اليوم تكمن في انحسار المشهد السياسي في إسرائيل نحو اليمين المتطرف، كما لم تعرفه دولة الاحتلال منذ نشأتها، وبشهادة الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن، الذي كان يفتخر بصهيونيته منذ دخوله عالم السياسة قبل أكثر من نصف قرن. لقد غابت أي أصوات للسلام في إسرائيل، ولم يعد العالم ولا الفلسطينيون يجدون أي شريك شجاع للسلام في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وهي الحقيقة الجلية التي يغفل عنها الغرب، أو يتغافل عنها، في انحيازه غير العقلاني وغير الأخلاقي لإسرائيل.
غير أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة والمتجددة هذه الأيام على غزة جعلت هذا التأييد المطلق لإسرائيل يبدو مكلفًا في الأفق المنظور، سواء بالنسبة لأمريكا أو لدافعي الضرائب الأمريكيين، الذين أصبحوا أكثر إلمامًا بطبيعة الصراع، وأكثر إدراكا من أي وقت مضى لعمليات الإبادة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، بدعم ومباركة من أجهزة الدولة في أمريكا. إن استمرار هذا التوجه واستغلاله قد يوصل أقصى اليسار إلى البيت الأبيض، وربما يأتي بسياسي مثل بيرني ساندرز، سيناتور فيرمونت، وهو مناصر لقضية فلسطين العادلة، رغم ديانته اليهودية.
لكن الشعب الفلسطيني المقاوم لن يظل عرضة لكل أشكال الجرائم والاستيطان والإبادة منتظرا وصول مثل هذا السياسي إلى البيت الأبيض. فقد عانى -ولا يزال يعاني- منذ حوالي قرن من الويلات، والحروب، والقتل، والتهجير، والحصار. فما أبشع أن تقوم العصابات الصهيونية في عام 1948 بتسميم الآبار لإجبار الفلسطينيين على النزوح نحو قطاع غزة، وهي العصابات ذاتها التي تدفع اليوم المدنيين الأبرياء إلى النزوح من هذا القطاع نحو المجهول، وبدون رجعة.
إن أي إدانة لجرائم الاحتلال الصهيوني تواجه بحملة تشويه إعلامي شرسة، حيث يُلصَق بصاحبها تهمة معاداة السامية، وكأن صهيونية حكومة إسرائيل رخصة للاحتلال، والتجويع، والحصار، وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية على مرأى ومسمع العالم أجمع.
إن تهمة معاداة السامية ليست سوى استنساخ لموجة الإرهاب الفكري والسياسي المسماة “المكارثية” (McCarthyism)، وهي تيار سياسي ارتبط بالسيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي، الذي قاد حملة ضد الأشخاص الذين يُشتبه في أنهم شيوعيون أو متعاطفون مع الشيوعية، مما نتج عنه تصفية شخصيات سياسية وإعلامية وفنية دون أي إثباتات أو أدلة قانونية.
وللاطلاع على جذور الاحتلال الصهيوني الاستعماري الاستيطاني وتطوره، وفهمه فهمًا معمقًا، أنصح المهتمين بقراءة كتاب “مائة عام من الحرب على فلسطين” لمؤلفه رشيد الخالدي، وهو مؤرخ وأستاذ الدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا، حيث نشر عام 2020 كتابه الذي ضمنه فكرة أن المقاومة الفلسطينية حركة تحرر وطني وديني، تدافع عن أرضها، ودينها، وحريتها، وهويتها، بينما دولة إسرائيل وما تقوم به ليس إلا استعمارًا واحتلالًا.
وانطلاقا من هذا التصنيف الدقيق والواقعي، ما على العالم الحر اليوم إلا أن يجيب عن سؤال بسيط: أي الفريقين أحق بالدعم والمناصرة؟
إن المقاومة الفلسطينية، بكافة تشكيلاتها وتوجهاتها، تشترك في إيمانها بشرعية قضيتها ومشروعية تطلعاتها، وهي بذلك تمتلك إرادة تحرر، ويتملكها وقدا فطريا نحو الحرية، والسيادة، والمجد.
ومن أعظم دلائل صبر وعزم الشعب الفلسطيني المقاوم أن كلمة “انتفاضة” قد دخلت معجم السياسة العالمي واستقرت فيه، حيث تُنطق في جميع اللغات بلفظها العربي المبين، دون ترجمة، لتظل قضية أحرار العالم الأولى، تملأ الدنيا وتشغل الناس. فهي حية، كأشجار الزيتون المباركة، في ضمائر البشر جميعًا، فالحرية لا تُنال إلا غِلابًا ومغالبة، وصبرًا ومرابطة على الثغور، وعلى عتبات بيت المقدس، أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الدكتور الزين ولد سيدي ولد بناهي