مقالات

لا للتكفير فى زمن التفكيرى / د. المحامي محمد سيدي محمد المهدي

طالعتنا وسائل التواصل الإجتماعى فى الآونة الأخيرة على حرب باردةتدور رحاها بين شريحة ايكاون وأب ولد زيدان من جهة وبين بعض من ينمون أنفسهم للعلم والمعرفةمن جهة اخرى.
والرابط بين اب وإيكاون، هو اتهام الأخيرين من طرف البعض بأنهم يماثلون اليهود وامتناع بعض العلماء كما قيل عن الصلاةعلى بعض مشاهيرهم ،الأمر الذى اعتبروه اتهاما ضمنيا يخرجهم عن ملة الإسلام ،لأن الذى لا يصلى عليه هو الكافر والذى لايصلى عليه الفضلاء هو الشخص المقتول حدا لاكفرا :(….وقتل بالسيف حدا ولوقال أنا أفعل وصلى عليه غير فاضل ) ، أما الأستاذ الصحفى أب ولد زيدان فقداتهم كما زعم من طرف زميله فى المهنة ولد ابى المعالى والسياسى جميل ولد منصور بالإلحاد والردة.
وقد وصل الأمربالأستاذ المحامى المعروف سيدى المختار مدعوما بالنائب محمد بوى الى تقديم شكاية للنائب العام ضده ، وهذا هو اخطر اتهام يمكن ان يوجه لمسلم لما يترتب عليه من تداعيات.
وانطلاقا من خطورة هذا الإتهام اتخذت قرارابدخولى على هذا الخط لمعالجة الموضوع من خلال النقاط التالية:
أولا: إن إيكاون مكون أساسي من مكونات العرب (البظان) يحتلون مكانة متقدمة ضمن هذه المنظومة الإ جتماعية ، ويعود لهم الفضل فى حفظ العديد من الموروث الثقافي والإجتماعى ، فهم وبحق وبدون تحيز لولاهم لضاع الكثير من التاريخ الموريتانى والعديد من مفردات اللغة العربية التى نراها فى (رسم احمد ديه بن بكار بن اعمر بن امحمد بن خونا) للفنان الكبير الأديب الراحل سدوم ولد انجرت.
هذه الشريحة، شريحة اجتماعية ظريفة تطأ على الجرح دون ان يحس صاحبه بأى ألم ، خدمت هذا المجتمع فى كافة الظروف ، فهى التى تشد من أزره وقت الحرب وتبعث فى نفوس المقاتلين الحماس والنخوة وكل ما من شأنه رفع المعنويات، وهى التى تنافح عن قومها وترد عنهم السنة الآخرين، وهى التى ان عادت الأمور الى مجاريها تدخل البهجة والسرور على قلوب الملايين وبخاصة فى مواسم الأعياد وكافة المناسبات الإجتماعية، وهي فضلا عن هذا وذاك تحب آل البيت وتجلهم وتهدى إليهم كما أنها تحب العلماء والأولياء والصا لحين وتعطيهم من مالها الخاص وتتصدق على الفقراء والمساكين من جميع طبقات المجتمع دون تمييز…وفيها رجال عظام منفقون فى السبيل امثال المغفورله رمز هذه الامة وفقيدها الشاعر الكبير الفنان العظيم الأديب الراحل سيدات ولد ألف ولد آب واخوته وكثيرون هم على شاكلتهم كالفانان العظيم سدوم ولد أيده وغيره ممن دأب على هذا النهج القويم.
وبالجملة فهم مكون أصيل من هذا المجتمع ولدوا فى الإسلام وترعرعوا وعاشوا يشهدون الشهادتين ويقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة ومن استطاع منهم حج البيت يفعل ذلك، يؤمنون بربوبية الله ووحدانيته ، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم للآخر ، و بالقدر خيره وشره، وقوم هذه صفاتهم لايجوز شرعا الطعن في إسلامهم ومقارنتهم باليهود خلقا وخلقا.
ثانيا: حكم الغناء و الطرب.
من. الثابت أن أبا بكر رضي الله عنه جاء إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فيه جاريتان تغنيان لعائشة رضي الله عنها، فقال:(أمزامير في بيت رسول الله؟)، ونهاهم عن الغناء، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:(دعهم يا أبى بكر إن اليوم يوم عيد).
ومن الثابت كذلك أن فرقة حبشية جاءت إلى المدينة و أقامت حفلا من الرقص و اللعب بالمسجد النبوي الشريف،وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشاهدها وطلبت منه عائشة أن تشاهدهم فوافق على ذلك وجعلها خلفه وكانت تنظر إليهم من ورائه.
ومن الثابت أيضا أن بعض كبار الصحابة و التابعين كانوا يستمعون للغناء ولا يتحرجون منه ولم يكن ذلك قادحا في دينهم ولا مروءتهم ،فهذا الصاحبي الجليل أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان كان يستمع إلى الغناء، ويكثر فى بلاطه الشعراء والمطربون ، وهذا الصحابي الأجل سليل بيت النبوة عبد الله بن جعفر كان هو الآخر يستمع إلى الغناء ويغدق على المطربين والشعراء.
فقد ثبت أنه وفد إلى الشام في خلافة معاوية بن أبي سفيان الذي كان يحبه ويجله،ولما سمع الشعراء و المطربون بقدومه توافدوا على محل إقامته،فكانت سهرة مابعدها سهرة تخللها الشعر والغناء، فسمعت زوجة أمير المؤمنين معاوية ذلك الطرب فكأنها عرضت بعبد الله بن جعفر،فلما كان الثلث الأخير من اليل إستيقظ معاوية فسمع قراءته وكان حسن الصوت،فأيقظ زوجه وقال لها اسمعي قراءة من كنت تتندرين عليه.
وهذا أمير المؤمنين هارون الرشيد حفيد حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس يكثر ببلاطه المطربون والشعراء وغيرهم، وهو على درجة عالية من العلم و الفتوة و تحيط به كوكبة من أفضل علماء الإسلام آنذاك .
يتضح مما تقدم أن الغناء في حد ذاته ليس حراما وإنما يحرم إذا أدى إلى الوقوع في الحرام، وهذه قاعدة عامة لا تختص بالغناء لوحده.
وقد ذكر العلامة حمدا ولد اتاه أطال الله بقاءه ورفع على ذروة كل مجد سناءه أن الغناء ليس حراما مستندا على ماذكرناه بخصوص غناء الجواري في بيت رسول الله ناسبا للقطب الكبير الشيخ سيدي المخطار الكنتي أنه قال:(يخشى على من ادعى إطلاق الإجماع على تحريم الغناء ان يكون كافرا).
وهناك طائفة أخرى تقول بحرمة الغناء إن كان مصحوبا بمزامير و أوتار.
ولكن الرد على هذه الطائفة نجده في ما قاله أبوبكر رضي الله عنه :(أمزامير في بيت رسول الله ؟) وجواب الرسول (ص) له .
وعليه فإن القول الراجح المستند على الأدلة القطعية هو إباحة الغناء و في أسوء الأحوال هي مسألة خلافية الراجح فيها ماقدمناه .
ثالثا: إن الغناء أسوأ مراتبه أن يكون مسألة خلاف هل هو مباح ؟أو حرام؟ أو مكروه ؟أو خلاف الأولى؟ وهذا الخلاف يجعل المغني في مأمن من الخروج عن دائرة الإسلام، الأمر الذي ينتفي معه أي مبرر شرعي يحرم صاحبه من الصلاة عليه.
وقد كان فضلاء هذا البلد من أمراء و علماء أجلاء ومشايخ كبار يقدرون هذه الشريحة و يغدقون عليها المال و لا يجدون حرجا في ذلك ، وقد شاهدت بأم عيني والدي، وهو عالم جليل سليل بيت العلماء وا لأولياء يكرمهم و يعطيهم و يستمع إلى غنائهم وقد مدحوه كثيرا ولم يقدح ذلك فيه ولم يقلل من هيبته عند نظرائه العلماء….وتوجد طائفة أخرى من مجتمع الزوايا يطلق عليها ( الطلبه ) لا تحبذ الغناء ولا تتعامل مع القائمين عليه وتحاول دائما التستر وراء حرمته…وفى اعتقادى أن الامر لايعدو كونه حرصا منها على اموالها ولا علاقة له بالشرع…خاصة اذا أخذنا بعين الإعتبار أن قبائل الزوايا الكبيرة ذات الوزن الثقافى والإجتماعى لها مطربون يختصون بها او هى تتعامل بإيجابية مع مطربى القبائل العربية التى ترتبط بها ارتباطا إيجابيا..
رابعا: إن الكذب و النفاق و التملق وأكل المال العام أمور مجمع على تحريمها، وهي بلاء عم ولم نسمع أن أحدا من علمائنا البارزين قد أمتنع عن الصلاة على أحد ممن يتصفون بتلك الصفات المجمع على تحريمها.
وهذا يعني أن الورع لم يكن هو الدافع الحقيقي وراء عدم الصلاة على ديمي و والدها سداتى رحمهما الله وأسكنهما فسيح جنانه.
خامسا: لا يجوز لمسلم أن يكفر مجموعة من المسلمين جزافا ولا حتى فردا واحدا من أفراد المسلمين دون تقديم أدلة مقنعة و مناقشتها معهم و إقامة الحجة عليهم، وقبل ذلك يكون مايصدر عنه مجرد سب و إهانة وعدوان يعطي لمن سبب له الأذى حق التقدم بشكوى إلى الجهات القضائية المختصة.
سادسا: تعتبر الدعوة العمومية من اختصاص النيابة العامة بوصفها تمثل إرادة الدولة ولا دخل لأي فرد بها محاميا كان أو برلمانيا وعليه فإن شكاية المحامي و البرلماني مع إحترامى الشخصي لهما لا تستند على أي أساس قانوني، بل إنها مجرد جعجعة بلا طحين اريد من ورائها تحريك الشارع و إثارة الرأي العام للضغط على السلطات من جهة و إبتزاز المعني من جهة أخرى.
سابعا: إذا كان تحريك الدعوى العمومية من إختصاص النيابة العامة، فإن إصدار الأحكام بتكفير الأفراد أو شرائح المجتمع هي الأخرى من إختصاص القضاء و ليس ولد منصور او ولد أبي المعالي، فلا توجد صفة قط لهذين الرجلين تعطيهما الحق في تكفير المسلمين لمجرد إختلافهم معهما في الرؤى، فهذا أقل مايمكن أن يقال عنه إنه إرهاب فكري يمارس منذ فترة وقد طالت نيرانه فى السابق بعض العلماء الآخذين بالأصول كالمجيدرى ولد حبيب الله وحمود ولد متار.
ثامنا: ينبغي أن نكون على بينة من أن كفر المسلم بعد اسلامه هو الذي عبر عنه الفقهاء بالإرتداد عن الإسلام مصداقا لقوله تعالى:(ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة وأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون)،
و الردة هي كفر المسلم بقول صريح كقوله كفر بالله أو برسوله أو بالقرآن أوالإله اثنان اوثلاثة،او المسيح ابن الله او العزيرا بن الله، او بلفظ يقتضيه ،إما بينا كجحد مشروعية شيء مجمع عليه معلوم من الدين ضرورة كتكذيب القرآن اوالرسول ،اوفعل يتضمن الكفر كالقاء مصحف بقذر وشد زنار ،وسحر، و الأصل في أن السحر كفر قوله تعالى:(وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر )إلى قوله تعالى :(ومايعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر).
ومن الكفر كذلك تكفير مسلم بغير دليل شرعي لقوله عليه الصلاة والسلام:(من كفر مسلم فقد كفر).
هذه هي الأمور التي ذكر الفقهاء أن القائل بها أو العامل بها مرتد عن الإسلام، حيث حصروا أسباب الردة فيها ولم يتركوها للإجتهاد والهوى، ورغم وضوحها لم نجد فيما ورد في كلام اب ولد زيدان ماينطبق على أى منها.
فالرجل شكك في رواية ا بن إسحاق عن قيادة أبرهة لجيش الحبشة ولم يتطرق قط لأى تشكيك فى السورة القرآنية التي لم تفصح عن أصحاب الفيل لا من حيث العدد او الأسماء.
واذا كان مجرد التشكيك او الإعتراض على أقوال العلماء يدخل صاحبه الردة، فإن العلماء بصفة عامة و المفسرين بصفةخاصة سيصبحون طبقا لهذا المنطق أو ل المرتدين حاشاهم من ذلك، فهم قد إختلفوا في أشياء كثيرة حتى فى تفسيرهم لهذه السورة، فمنهم من زعم قيادة النجاشي لهذا الجيش، ومنهم من رفض ذلك، ومنهم من قال إن عدد الفيلة ثمانية، ومنهم من قال أنه واحد …إلخ.
تاسعا: لابد من تقديم شهادة مفصلة من قبل عدول لإقامة الحجة على كفر المسلم و إرتداده خوفا من تكفير المسلمين بمالا يعتبره الإسلام كفرا.
وهذه الشهادة هي التي أشار إليها العلامة محمد عليش بقوله:(وإن شهد عدلان بكفر مسلم بينت الشهادة فيه لأنه يترتب عليه سفك دم وقطع عصمة وحجر مال ومنع وارث وغيرها، فلا يكتفي القاضي بقول العدول أشهد بأنه كافر او إرتد حتى يبين وجهه لاختلاف الناس في ما يكفر به، وقد يرى الشاهد تكفيره بما ليس كفرا، وظاهر كلامه وجوب التفصيل ونحوه في التوضيح).
ابن شاس لا ينبغي أن تقبل الشهادة على الردة دون تفصيل لاختلاف المذاهب في التكفير،ابن عرفة هذا حسن وهو مقتضى قولها(المدونة)في الشهادة في السرقة : ينبغي للإمام إذا شهد عنده ببينة أن فلانا سرق ما يقطع في مثله ان يسألهم عن السرقة ماهي وكيف هي ومن أين أخذها و إلى اين ذهب بها.
هذه هي الأمور التي يترتب على اثباتها وليس الإتهام بها افكا وزورا وبهتانا ارتداد المسلم عن دينه، أما تكفير المسلمين دون تقديم أدلة حاسمة فالأولى تركه لأن إدخال ألف من الملحدين في الإسلام إذا لم يتثبت القاضي من إلحادهم أفضل بكثير من إخراج مسلم واحد من دائرة الإسلام ونعته بالكفر .
قال بعض الفقهاء:
ومدخل ألفا من الملاحده أفضل من إخراج نفس واحده قال رسول الله ياأسامه كيف بها إن جاءت القيامة.
وخرج ابن وهب عن سفيان الثوري قال كان رجل فقيه يقول:(ماأحب أني هديت الناس كلهم وأضللت رجلا واحدا )، فإذا كان رجال القضاء المختصين بنظر دعوى الكفر لابد لصحة أحكامهم من التثبت من صحة الشهادة وتبينها ، فكيف بمن هم ليسوا قضاةاصلا ولا حتى فقهاء مشهورين كما هو حال ابي المعالي و من سار في ركابه؟
ومن أعطاهم الحق في تتبع عوراة المسلمين و اتهامهم بالكفر؟ فهل هم جهة وصية تتمتع بحقوق لا يتمتع بها المواطنون؟وهل أصبح الإسلام السياسي سيفا مسلطا على رقاب المسلمين يشهر دائما في وجه المخالفين لرؤية أصحابه؟
ما هذا التحكم و الشطط و الجرءة على انتهاك أعراض الناس وقراءة مايدور بخواطرهم؟
ألم يكتفوا بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(عليكم بالظواهر والله يتولى السرائر)، وقوله :(أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها حقنوا دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله)،وقوله لأسامة بن زيد:(أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ) ؟ وبعد ان رد عليه أسامة قائلا إنما قالها تعوذا ،قال له:( هلا شققت عن قلبه)؟ ألم يسمع أصحاب التكفير قوله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) وفي رواية (المسلم كله حرام دمه وعرضه و ماله).
فالمسلم الحق هو من سلم المسلمون من لسانه و قلمه و أذيته و لم يتعرض لدمائهم وأموالهم و لم ينتهك حرماتهم و يعري عوراتهم ومن فعل ذلك فقد إحتمل بهتانا و إثما مبينا..(

فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر كل من قال لاإله إلا الله مسلما يحرم دمه و ماله و عرضه و يتعامل معه كمسلم على مايظهره من ممارسة للشعائر الإسلامية و يترك مايبطنه لله تبارك و تعالى، فكيف يتسنى لشخص آخر على وجه الأرض تكفير المسلمين لمجرد أنهم شككوا في روايةا بن إسحاق المتعلقة بحادثة الفيل؟ هل إبن إسحاق عنده حصانة من النقد لا توجد عند غيره من العلماء ؟ أو حرمة كحرمة الرسول أو القرآن؟ أليست أقواله كغيرها من أقوال العلماء فيها أخذ ورد؟ ألم يثبت عن إمام الإئمة مالك بن أنس قوله:(كل قول في رد إلا قول صاحب هذا القبر)؟
فإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فإن تكفير الأستاذ الصحفي أب ولد زيدان لمجرد تشكيكه في رواية ابن اسحاق عن أصحاب الفيل يعتبر نوعا من الإرهاب الفكري الظلامي يمارس ضد حرية الرأي و الرأي المضاد الذي ينير الطريق للأجيال القادمة ويخرج الصواب بعد تزاحم العقول و الأفهام .
(قل هل أنبؤكم بالأخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا).

الدكتور المحامي محمد سيدي محمد المهدي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى