مقالات

آخر معارك الكولونيل…

كأن صاحب القامة الفارعة والشارب الكث، الذي يذكرك بقصص قادة الجيش الإنكشاري وأيامهم، قد سئم منا ومن يومياتنا الرتيبة، فترجل عن جواده في صمت بعيدا عنا، في صحراء تشبه إلى حد كبير رحابة صدره وامتداد عطائه لوطنه…الحياة مضحكة أحيانا!

“رحل أعل ولد محمد فال”، ببساطة غادرنا الكولونيل ذات مساء بارد، وزع علينا حزنه بسخاء منقطع النظير، هناك أخبار تجبرك أن تكتبها باختصار شديد وممل للغاية، لأن تفاصيلها مسكونة بالألم والشجن والأسئلة المحرمة،

لم التق الكولونيل قط، رغم صلة القربى بيننا، فلدي عقدة مزمنة من طلب لقاء المسؤولين أو السعي إليهم وهي عقدة كبرت معي واستفحلت لدي مع تقدمي في السن، لكنني ككل الموريتانيين قاسمت الكولونيل ذلك الحلم الجميل، الذي حمله إلينا هو ورفاق السلاح، ذات صباح رطب من شهر آب أغسطس، برياحه المتقلبة ورائحة المطر التي لا تفارقه،

كان حلما جميلا، لأنه كان بسيطا للغاية، تماما كتلك الحكايات التي كانت ترويها لنا جداتنا قبل النوم: “موريتانيا عادية جدا، تنتخب في الصباح وتتبادل التهاني الحارة والابتسامات العريضة في المساء”، “موريتانيا تتعلم كيف تضع النقاط عند نهايات الأسطر”، فقد كان الكولونيل يؤمن بذات القناعة التي تشكلت لدى صديقه الجنرال ديغول، حين قال ذات زمن: “لقد توصلت إلى قناعة مفادها أن السياسة أمر أكثر جدية من أن يترك للسياسيين”،

ما زلت أذكر أول خطاب ل”الكولونيل الرئيس”، كأن الأمر حدث البارحة، يومها تدوال الموريتانيون قصة طريفة جدا، تقول إن مستشاريه لما جاؤوه بالخطاب وقد شكلوه له حتى تسهل عليه قراءته، التف إليهم مبتسما ومتسائلا: “ذ من لى أكسانهAccents شنهو؟”،

لكن التحول الكبير في علاقة الكولونيل بشعبه سيحدث ذات ليلة طويلة من شهر رمضان من عام الأحلام، خلال أول مؤتمر صحفي يعقده الرجل، فمنذ تلك اللحظة سيمد الموريتانيون جسور محبة وإعجاب مع ساكن القصر الجديد، وهي جسور ستظل صامدة، رغم الأعطاب العديدة التي ستلحق بالوطن في السنوات التالية.

آخر معارك الكولونيل كانت من أجل موريتانيا، التي ظلت دائما معركته الأولى والأخيرة، وقد خاضها بشرف العساكر المحترمين، كان الكولونيل يحلم بموريتانيا تقطع نهائيا مع العهود الاستثنائية ومع حكم الرجل “السوبرمان” الذي أخذها في كل مرة إلى حافات التهريج والعقم الفكري، كان الكولونيل يحلم بموريتانيا تستطيع أن تحمي نفسها من نفسها وبنفسها وأن توزع الفرح بسخاء، كل صباح، على شعبها،

في إحدى مقابلاته الأخيرة، نفى الرجل أن تكون لديه نية الترشح للرئاسيات القادمة، واستغربنا الأمر كثيرا، نحن الذين لم ندرك أبدا أن الكولونيل، هو من طينة أولئك الرجال الذين لا يسعون إلى سلطان،

مثل غاندي ومانديلا وديغول وأبراهام لنكولن ومارتن لوثر كينغ ولومومبا وسنغور وتشي جيفارا وسعد زغلول وعبد القادر الجزائري وعمر المختار والسيد قطب وعز الدين القسام وكين سارو ويوا وسميدع وفاضل أمين وغيرهم كثير…رجال نادرون مروا من هنا ثم رحلوا دون أن تتسنى فرصة وداعهم، لكن أحلامهم بقيت تعيش بيننا وتحولت إلى مزارات،

في اختتام الأيام التشاورية، ألقى الكولونيل يومها خطابا مؤثرا جدا، دعا في نهايته الحضور إلى تقاسم كأس من الشاي، وأردف قائلا: “إن الموريتانيين تعودوا دائما أن يحلوا مشاكلهم مهما استعصت في جلسة شاي”، قالها ورسم على شفتيه تلك الابتسامة التي تعود ألا يدعها تكتمل أبدا، بسبب حزنه الدفين والمزمن على وطنه،

إن أجمل وداع يمكن أن نخصصه للكولونيل بعد أن غادر دنيانا، هو أن نودع أزمتنا ونضعها وراء ظهورنا وألا ندعها تستغرقنا فتغرقنا،

هو أن نتخلص من كل حماقاتنا وضحالاتنا وأن نثوب جميعنا إلى جميعنا وأن نقيم حفلة شاي صاخبة له ولنا، حتى نثبت للعالم بأسره، أن الموت ليس هو الشيء الوحيد، الذي يجمعنا ويوحدنا.

البشير ولد عبد الرازق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى