إلى السيد الوزير أبي فاعور – مع التحية

روي عن بشار بن برد أنه بكى حين سمع أبياتا هجاه بها أحد الشعراء وحين سئل ما يبكيه وهو الشاعر المفوه حاد اللسان قال: لقد ذكر الرجل صفات سوء في فصدق وإني ليؤلمني عدم تمكني من رؤيته لأقول فيه عيبا يكون صدقا. وإذا كان بشار ابن برد قد أعجزه ذلك العائق الحسي فإني كشنقيطي من عصر البث المباشر أرى الآن من أريد الرد عليه بأم العين تاريخيا وثقافيا وسياسيا فإليك سيادة الوزير “أبو فاعور” أوجه كلامي وأعتذر للبنان إن كان المقام غير مقام تمجيد لأرض مكتبة العرب وقناة نشرهم وآلة جوتمبرغ طباعة تراثهم. أعتذر للبنان الأخطل وجبران واستسمح فيروز فسأعقد الحاجبين لبعض الوقت واستسمح الصافي وأعتذر من ليلاه فلا الليل الليلة هو المعاتب بل أنا. أستسمح لبنان صاحب شرف حفظ معرفة العرب في المشرق باسم شنقيط صاحبة ذلك الشأن في المغرب فبين شقي نواة التمرة النبيلة تنبت العثة أحيانا

— –
أيها الوزير ابدأ بالتأكيد على ماقلت في تصريحك فمازدت وصفيا على التعبير عن الحال التنموي لبلادي ولن أكون راميا لدائي ثم منسلا وإن كانت فَعْلة عربية ونحن اليوم في مناسبة عربية. لا. فما تلك بعادتي كمواطن عربي تعود السباحة ضد التيار من المحيط إلى الخليج وجينه الثقافي الإسلام بأمانة الشهادة فيه فلا الشنآن الانطباعي هنا بجارمي على الجور في القول، وما أنا لذلك بذي حاجة اضطرار ففي هوامش تصريحك ما يغنيني عذرا لأَصول براحة بال موضوعية تكفي إيماني بالمبدأ قتالا بسيف عزة بالإثم خشبي الخامة.
بالفعل، مزر هو الوضع في بلادي فهي في المجمل، وببساطة تهجي حروف لغتنا المجيدة، مصابة بلعنة الأنظمة العربية وكرب أهل الجنوب العالمي فهي بذلك محققة عروبة أطر فوقية مكتسَبة عززت عروبة قاعدية شعبية أصلية. كأن دولنا العربية، على شتاتها المؤسسي واختلاف سياقاتها المحلية، متحدة في اتصاف أنظمتها بالعسكرية والفساد فإن لم يكن بالعسكرية والفساد مجتمعين كان بالفساد والبطش الناعم والخشن بشعوبها ففي ذلك نحن فعلا إخوان من المحيط إلى الخليج ومن طرابلس إلى مقديشو. في هذه بُنانا التحتية متطابقة المقاييس فلا يحتاج الأمر المبيت في الجوار فتلك السمة متحققة.

سيدي الوزير، سأكون في عجالتي هذه مستأنسا بمنهج الأوروبيين في صياغة اتفاقيات شراكتهم مع الغير فهم حريصون حد الهوس على تطبيق سياستهم الزراعية الحمائية دون تنازل فيتتعبون مثلا المكون الزراعي في المنتج المصدر إليهم من البلد الشريك فيفرضون عليه رسمه المقابل. لو كان المنتج قالب بسكويت مثلا فإنهم يعمدون إلى الأوزان النسبية فيه لكل منتج زراعي أصلي فيفرضون عليه النسبة المقابلة من الرسم. أنا، وابتغاء للموضوعية، سأكون معاملا لك بهذا النهج ولا أخالك تعترض عليه فالأوروبي الغربي ملهم تاريخي للبنان في الأسماء والصفات فهي أيسر الواردات الثقافية عموما. هذا النهج الأوروبي في معاملة البضائع سيسهل مهمتي كمفكك لقنبلة عبر فصل أسلاك توصيلها فلا الغرض التهجم على لبنان الشقيق ولا الموقف القبول بكلامك المثير وأنت تتحدث بثقة هي محل التفنيد في ما يلي من الأسطر. سأنتهج ذلك المنهج التفكيكي حتى لا أظلم بلدا شقيقا جميلا عزيزا هو لبنان وحتى أتمكن في الوقت نفسه من الرد على كلام غير مقنع من وزير الحكومة اللبنانية.

أتفهم تحفظ رئاستكم على المبيت لدينا بدعوى ضعف البنى التحتية فهو حتى دون تبرير خيار سيادي لكن أستسمحك في بعض التوضيح لأسباب ذلك الضعف قبل التمادي في الموضوع. نحن، أخا الدروز الكريم، من بلاد لم يصلها الترك حين كان “الباب عاليا” ولم يصلنا الفرنسيون إلا ليصلوا مستعمراتهم الحقيقية شمالا حيث نويتم المبيت وجنوبا حيث مظنة مبيت آخر محتمل لتوفر البنى التحتية من عهد الاستعمار. كنا صعبي المراس ثقافيا وشكل ذلك جوهر ممانعتنا للمستعمر رغم وهن بيوتنا (الخيام) فلم يخترقنا ولم يبن بنا حواضر عامرة. ليس نيلا من أحد إنما توضيح لفكرة مفادها أن مركزيتنا الحضارية لم تكن ذات جذب انتفاعي للمستعمر وكانت علمية ثقافية متنقلة غير مادية من الطوب والحجر. فحتى حسنة سيئات الاستعمار المتمثلة في تركه عمرانا لم ينلنا منها شيء. لقد أُعلن استقلالنا تحت خيمة لا تختلف كثيرا عن تلك التي ذكرت في تصريحك ضاربا بها المثل تهكما رمزيا و تأكيدا واقعيا على عدم أهلية عاصمتنا للوفد الحضري المبجل لقائم المقام صائب سلام

ليس قطعا من ذنب لبنان أن بلادنا لم تنجح خلال أكثر خمسين سنة في تعمير مدينة على هذا المحيط الذي يمكننا الاصطفاف على شاطئه بملايينا الثلاثة وطوله هو ذي السبعمائة والخمسين كيلومترا – إحصائيا – يدا بيد كمواطنين فنكفي بالكاد لسد الخط بين شماله وجنوبه ومع ذلك لا يزال السمك فينا يُتهادى به كالسلعة النفيسة ولا تزال شوارعنا تصبغ للضيوف كشيب العجوز المتصابي. تلك، سيدي الوزير، أوزارنا نحملها كاملة أمامكم مؤقتا ونحمِّلها نحن لمن تحمَّل مسؤولية هذه البلاد داخليا أبد الدهر. لا إشكال في هذه لكن في ما يفهم من حديثكم وقرار دولتكم باستحالة المبيت لعدم استيفاء شروط بدا – من لهجتكم – أنها عالية المعايير. لذلك أود تذكير جنابكم وعطوفة رئيس الوزراء وفخامة الرئيس أننا على علات بنانا التحتية زارنا من هو أعلى شأنا في مقياس المعايير التي تفضلتم بها فهل فخامته أكثر تحفظا من جاك شيراك غربا أو أطمح عزا وبذخا من الشيخ زايد والملك فيصل رحمة الله عليهما شرقا؟ هنا، وزير الصحة الموقر، سيكون لمشرط قلمي، خارج تخدير مهدئات الدبلوماسية، دوره في تحليل موقفكم الذي نحنرمه لكم كخيار سيادي ونرفضه كحكم منطقي.

عهدي بلبنان أنه فرنسي الهوى خاصة في الإتيكيت والرسميات من زوايا وضع الشوك على المنضدة إلى ربطة عنق فخامة الرئيس وتايور السيدة الأولى، فكيف يكون لشيراك القادم من مدائن فرساي العامرة والقاطن للأليزيه والمداوم قبلها في الماتينيوه والمستجمم في ضِيَع ريف “كوريز” أن يقبل بما لا يقبل به الرئيس سلام.
تحدثتم عن الخيمة موردين لها في سياق التهكم ولي في هذا تعليق بسيط سيادة الوزير. لمّا كانت القمة عربية – فالقادمون منتسبون لذلك وإن ضموا غيرهم فالعرب ضمت منذ القدم طوائف اليهود والفرس وكل طيف المنطقة الممتدة من باب المندب إلى ديار بكر – فلا مأخذ من حيث المبدأ على أن تضمهم خيمة ففي ذلك انسجام عمراني وجداني وثقافي، وأمنيٌّ حتى فهي مفتوحة الأجناب ومتيسر الولوج والخروج منها في حال الطوارئ وقممنا في أغلبها طارئة وإن أدارت شريط الأرشيف في كل مرة. سأقبل معك – كما قلت في الاستهلال توخيا للموضوعية – بأن ذلك علامة ضعف في البنى التحتية نحن مسؤولون عنه لكن ذلك لا يعفيك من بقية الاستفهام: ما العيب في اجتماع العرب في خيمة؟ أليس انسجاما بين الشامل والمشمول وتماهيا بين الشكل والمضمون؟

— –
إن للبنان وأهل الشام عموما في نفوس أهلنا معزةَ قاعدةٍ قبل أن تكون مجاملةَ قمةٍ، علاقة وجدانية قبل أن تكون دبلوماسية رسمية، معزةَ ثقافةٍ قبل أن تكون ارتباطَ سياسةٍ. فلقد استضفنا إخوة من تلك البلاد منذ كانت عاصمتنا التي تنوون المبيت خارجها خيمة بالفعل في ستينات القرن الماضي. في مركز المدينة القديم لا زال جانب من السوق يدعى ركن “الشوام” فألفونا وألفناهم واكتسبوا جنسية هي لهم بفعل الدين والمعايشة الطيبة والعروبة التي لم تشفع لأهل المركز منهم اليوم في تقبل المبيت ليلة واحدة بسبب اقتصادي صحي قد يكون مقبولا من وفد نرويجي على اعتبار اختلاف المقامات الجغرافية والمناخية والاقتصادية ولا يكون متقبلا من إخوة جنوبيين تعودوا رطوبة المتوسط يشربون الأرجيلة ويتناولون الكبة والسجق المتبل ومن بلد تختلف مؤشراته الاقتصادية عن أهل الشمال الأوروبي البلطيقي.

فإن كانت السياسة والمصالح فللبنان وزن جبله الجميل من مبررات الدبلوماسية ما يجعله أحرص من غيره على حضور القمة ومجاملة البلد المضيف لها والمحالة له رئاستها. لبنان الدولة الساعية لفرض سيادة الحد الأدنى للتعايش داخليا مع دول عميقة عديدة محتاج إلى كل سند من حاضنته الرسمية العربية خاصة إذا كانت نديته داخليا محل كرب في وجه مكون له ولاء عابر للحدود السياسية نحو ولاية الفقيه العالمية وحيث الطائفة كيان مختطِف للحزب ليتماهى الشيخ الدرزي مع زعيم الحزب التقدمي ليكون التعيين قسمة بالأعداد العشرية فئويا فيكون الوزراء أحيانا ما جادت به عباءة زعيم الطائفة. كل ذلك، سيدي الوزير، مدعاة لأن يكون لبنان أحرص الناس على قمة حتى ولو عقدت في سهل أجرد مفروش بنبات شوكي.

لا نحملكم وزر فساد أنظمتنا المتعاقبة لكن لا نقبل من نظامكم فوضى تعبيرية في تبريره لقرار غير مناسب في عرف المجاملات لدينا وغير مناسب لقدِّ مقامكم في سلم التعالي الأتيكيتي الدولي. كل ما في الأمر بتبسيط شديد، سيادة الوزير، أن عربا تداعوا لقمة واعتذر بعضهم عنها فآلت إلينا فآويناهم إلى خيمة ليتشاكسوا فيها ولتكون فرصة لهم لرؤية أمكنة مختلفة من جغرافيا وطنهم زارها رؤساء أوروبيون بكل أناقة وتواضع ونَهَم ثقافي للتعرف على بانوراماها المحلية ورفض بعض الأشقاء العرب ذلك بأوروبية أكثر من الأوروبية نفسها، نحترم لهم فيها سيادة الموقف ونفند وجاهة السبب.


تحياتي سيادة الوزير

عبد الله محمد

Exit mobile version