تجديدُ الطبقةِ السياسيةِ: صِدَامُ أم تَكَامُلُ أجْيَال؟

غيرُ خاف أن الإهتمام و الإلتزام السياسي للشباب الموريتاني عَرَفَ تراجعا كبيرا مقارنة مع العشريات الأولي التالية للاستقلال( الستينيات، السبعينيات و الثمانينيات). و يعود ذلك لأسباب عديدة منها: “شيطنة” العمل السياسي من طرف الأنظمة الإستثنائية، “تَمْييعُ”و “إغراق” العمل السياسي خلال العشرية الديمقراطية الأولي، التَقَهْقُرُ المذهل لعموم مستويات التعليم و شيئ من تراجع “أَلَق”ِ و “إِلْهَامِ” الحركات النضالية العربية و الإفريقية و العالمية…
و يمكن قياس تراجع الالتزام السياسي للشباب الموريتاني من خلال الغياب الكامل للوعي السياسي لتلاميذ المستوي الإعدادي و الثانوي و “الانحسار الكبير” لحماس النضال السياسي لدي طلاب التعليم الجامعي و الشباب حديثي العهد بالمدرجات الجامعية و طغيان الاتجاه الشبابي للتسلية و الفُرْجَةِ علي حساب الالتزام و النضال من أجل القضايا الوطنية وكذا التمثيل الضئيل للشباب ضمن فئات المنتخبين المحليين و البرلمانيين و الهيآت القيادية للأحزاب السياسية التقليدية…
و قد أدي ” شبه غياب” الشباب عن دائرة الفعل السياسي إلي ملاحظة نوع من “تقادم” و “دَيْمُومَةِ”و “رُكُودِ” الطبقة السياسية و تصاعد الحاجة إلي “عصرنة” المشهد السياسي وقد عبرت عن ذلك بعض الأحزاب السياسية و المشاريع المجتمعية و البرامج الانتخابية من خلال وضع شعار تجديد الطبقة السياسية في صدارة الأهداف ومقدم الاهتمام و اعتباره أحد الشعارات الأكثر إلهاما و إِلْهَابا و مَبِيعا…
و من المعلوم أن كلمة “التجديد”renouvelement في الاصطلاح السياسي و الإداري تفيد معانٍ و مقاصدَ متعددة منها الإصلاح و التحديث و العَصْرَنَةُ و المواءمة و التأهيل و “التحديث العمري”Rajeunissement…
و سبيلا إلي استيضاح مفهوم تجديد الطبقة السياسية عند دُعاته و حُماته من الشباب في بلادنا حاولت جهدي أن أجد وثيقة تأطيرية حول الموضوع علي غرار ما هو متواتر عند الأحزاب السياسية التقليدية التي تصدر أوراقا فكرية و وثائق علمية حول المواضيع الكبري المُؤسِسَةِ أو المسْتَجِدًةِ فلما أعياني ذلك و لم أوفق فيه لجأت إلي دراسة التصريحات و المقابلات الإعلامية لبعض الشباب من رموز الدعوة إلي تجديد الطبقة السياسية.
فخَلُصْتُ بعد استعراض عدد غير قليل من تلك التصريحات متفاوتة المبني و المعني إلي أن الشباب الساعي إلي تجديد الطبقة السياسية ينقسم إلي مذهبين أولهما مذهب”صدام الأجيال” و ثانيهما مذهب “تكامل الأجيال”.
فبخصوص مذهب صدام الأجيال فهو اتجاه تنتسب له -عن وعي أو غير وعي- الأغلبية الغالبة من الشباب شديد الحماس لفكرة تجديد الطبقة السياسية و هو مذهب يسعي من وراء رفع شعار تجديد الطبقة السياسية إلي “كْنْسِ” الطبقة السياسية الحالية (والكَنْسُ أحد “مصطلحات الساعة” مأخوذ من التجربة البوركينابية الحاليةle mouvement du Balais national) كما يهدف المذهب الصدامي إلي إحالة الطبقة السياسية الحالية إلي “التقاعد السياسي الجبري المُسَبق” باعتبارها مسؤولة عن كامل “الآفات” السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية… و حتي ” الطبيعية” التي حاقت بهذا البلد منذ استقلاله حتي يوم الموريتانيين هذا!!.
و ينقسم دعاة و سعاة ” صدام الأجيال” هؤلاء إلي فئتين فئةٌ تعبر عن ذلك بعُنْفٍ و غِلْظَة و خُشُونة لفظية تلامس حدود ” العقوق السياسي” اتجاه طبقة سياسية قادت و تقود المشهد السياسي رغم المُثَبٍطَاِت و المَطَبًاِت و المُنَغٍصَاِت. و هي و إن أخطأت في أمور فإنها وُفِقَتْ في أمور أخري أبرزها أنها استطاعت أن تجنب البلاد بتوفيق من الله في مناسبات عديدة مزالق الفتنة و “التجاذب السياسي العنيف” التي لم تسلم منها دول عديدة من العمق العربي و الإفريقي أصلب منا عودا و أقوي اقتصادا و أرسخ تجربة سياسية و أكثر تناغما و أقل تنوعا…( و التنوع منه ما هو ثراء و منه ما هو ابتلاء).
أما الفئة الأخري من دعاة “صدام الأجيال” فهم أمثل طريقة من الأولين و أطهر لسانا و أخف حدة و أنقي قلبا و يمكن وصفهم “بالصدامية الناعمة” وهم يرون أن الشباب يمثل غالبية الشعب الموريتاني و بالتالي يعود لهم الحق- ديمقراطيا- و دون اعتبار لأية معايير أخري في قيادة المشهد السياسي و هم بذلك يُحيلون محددات الأهلية العلمية و التجربة المديدة و المريرة إلي سلة المهملات كما يرون أن الطبقة السياسية الحالية دون محاسبة لماضيها يجب أن تُفسح المجال للشباب في قيادة الشأن الوطني و تحديد حاضر و مستقبل البلد من دون “وصاية” و لا ” دروس فوقية” حسب قاموسهم السياسي.
أما فيما يتعلق بمذهب ” تكامل الأجيال” في شأن تجديد الطبقة السياسية ببلادنا فهو مذهب لا زال خفيض الصوت قليل الأتباع من الشباب يسعي إلي تكامل الأجيال السياسية تكاملا مؤسسا علي “برور” جيل الشباب للآباء و الإخوة الكبار من جهة من خلال تثمين تضحياتهم و عطائهم و تجربتهم و أهليتهم و علي رفق و حنان “الأجيال الأولي” بالجيل الجديد من الشباب و اعتماد نوع من التمييز الإيجابي لصالحهم بغرض تبسير ولوجهم إلي المراكز القيادية في السياسة و الإدارة و الشأن العام من جهة أحري.
و في المحصلة فإن مسألة تجديد الطبقة السياسية تحتاج إلي ترشيد و تحرير يُستحسن أن يكون في شكل وثيقة سياسية تُبين سلبيات المذهب الصدامي الاستئصالي و تُعزز من مكانة و انتشار المذهب التكاملي علي أن تدور تلك الوثيقة حول محاور ثلاثة أولها توضيحُ أن تجديد السياسة سابقٌ علي تجديد الطبقة السياسية و ثانيها تحريرُ أن تَجَدُدِ الطبقة السياسية أولي و أنجعُ و أنفعُ من تجديدها ذلك أن التًجَدُدَ تطور داخلي طبيعي و التجديد قرار خارجي فوقي و ثالثها اقتراحُ إجراءات عملية تدريجية لتيسير ولوج الشباب إلي المراكز السياسية القيادية من قبيل خفض سن الترشح للنيابيات إلي 18 سنة و سن الترشح للشيوخ و رئاسة الجمهورية إلي 25 سنة و تخصيص “كوتا” من مقاعد الجمعية الوطنية و عمد العواصم الجهوية و المقاطعية للشباب دون سن الخامسة و الثلاثين….

المختار ولد داهي، سفير سابق.

Exit mobile version