اللاًمِحْوَرِيةُ أَدَاةٌ “لِتَصْفِيًةِ اسْتِعْمَار”ِ المَرْكَزِيًةِ

يًخَيًلُ إلي أن بعض القراء يُقْبِلُ بعضهم علي بعض يتساءلون فاغرين أفواههم و باسطين آذانهم عن معني اللامحورية إذ قليل ما هم أولئك الذين يعلمون أن اللامحورية هي أدق الترجمات لمصطلح “La Déconcentration ” في مقابل ترجمات أخري من مثيل ” اللاًتَرَكُزِيًةِ و اللاتركيزية”،….
و اللامحورية يمكن تعريفها بأنها “إحدي تقنيات التنظيم الإداري “المستوردة” من النظام الإداري الفرنسي و التي تسمح لإدارة ما “بالانتشار الترابي” للمهام و الأفراد من خلال خلق ممثليات لتلك الإدارة علي المستويات الأكثر قربا من المواطنين و المراجعين جهوية كانت أم مقاطعية أم قروية أم “تحت قروية”infra-localité،….”
و يجب بداية تبيان و تملك الفرق بين اللامحورية La Déconcentration و اللامركزية La Décentralisation حيث أن الأولي تعني تفويض ممارسة مهام إدارية أو تنموية معينة من إدارة ما لصالح مستويات إدارية فرعية أدني خاضعة لسلطتها و لا تتمتع بأية شخصية معنوية.
بينما تقتضي اللامركزية تحويل لا تفويض( و التحويل أقوي و أمضي من التفويض) بعض المهام و الأفراد و الوسائل المالية لفائدة مجموعات محلية منتخبة متمتعة بالشخصية المعنوية المستقلة بما يستتبع ذلك من تفعيل “مبدإ الحق في إدارة الذات بالذات” Le Principe de Libre Administration”.
و لقد عانت اللامحورية في بلادنا من الكثير من الإهمال من طرف الأنظمة السياسية التي تعاقبت علي البلد الشيئ الذي أدي إلي جعل ما يقارب ثلثي (66%) المهام و المؤسسات الإدارية ممركزة في العاصمة نواكشوط حيث يتواجد ما يربو علي أربعة أخماس( %80 ) كبار الأطر حسب بعض الدراسات المتكئة علي بعض الإحصائيات التقريبية.
و لربما يكفي دلالة علي إهمال اللامحورية ملاحظة غياب أية مقاربة عامة أو سياسة وطنية أو استراتجية شاملة خاصةٍ بالموضوع. فلا تكاد تجاد ذكرا لسياسة اللامحورية إلا ذكرا مَجْرُورًا”remorquée “من طرف سياسة اللامركزية التي حظيت بدعم و دفع من طرف الشركاء الفنيين و الماليين للبلد .
أولئك الشركاء الذين مولوا العديد من البرامج و المشاريع كالبنك الدولي و التعاون الأوروبي و الفرنسي و الألماني و الإسباني مما أسهم مساهمة رئيسة في تأسيس و ترسيخ اللامركزية و كذا دعم بعض قدرات مصالح اللامحورية باعتبار أن اللامركزية من دون اللامحورية هي نوع من “الماكياج المؤسسي” و “الزخرف الديمقراطي”.!!
و تمكن المؤشرات الثلاثة التالية من قياس مدي تردي واقع اللامحورية في بلادنا و حاجته إلي لفتة عاجلة:-
أولا: الواقع المادي و المعنوي المزري للمصالح اللامحورية( الجهوية و المقاطعية):و يتجلي ذلك الواقع أولا من خلال ملاحظة أن 90% من مقرات مصالح ( التعليم، الصحة،الضرائب ،الخزينة، البيئة ، البيطرة، ، التجهيز،الزراعة،الإسكان، الشباب….) هي مقرات “عالية الهشاشة” حسب الإحصاءات و الإسقاطات التقريبية المتوفرة.
حيث تتوزع المصالح اللامحورية بين مصالح تملك مقرات عمومية متهالكة غير آمنة و مصالح “مستضافة مؤقتا” من طرف مرافق عمومية أو خصوصية أخري و مصالح تؤجر” منازل خصوصية” وفق عقود إيجار هشة كثيرة تأخر السداد و “مَرَافِقَ رُحًلٍ” من دون مقر ثابت (Sans Siège Fixe-SGF).
ضف إلي ذلك الواقع المزري لمقرات المصالح اللامحورية أن متوسط مستوي تغيب الأفراد العاملين بالمرافق اللامحورية يبلغ حسب بعض الإسقاطات التقريبية مائة (100) يوم عمل سنويا في حين يبلغ متوسط تغيب فئة الأطر منهم مائتي (200) يوم من أصل 240 يوم عمل!!.
و المتواتِرُ الذي يشاع أن ألسنة الشركاء الأجانب رَطِبَةٌ منه هو أن المصالح اللامحورية أضحت منفي إجباريا مخصصا للموظفين “المغضوب عليهم” أو “مخبأ اضطراريا” معهودا للموظفين العاجزين فنيا او أخلاقيا عن الاضطلاع بالمهام الإدارية المناسبة “لدرجاتهم العلمية” و رتبهم المهنية!!
ثانيا : توقف برنامج “إعادة توطين”La Delocalisation المؤسسات و المهام ذات الطابع الجهوي الخالص:لعل من أنصع مظاهر غياب سياسة تطبيق اللامحورية هو توقف برنامج “إعادة توطين” المؤسسات و المشاريع و المهام ذات الصبغة الجهوية الخالصة كإعادة توطين “صونادير” بروصو و مصنع الألبان بالنعمة.
و لا أدل علي ذلك التوقف و التعطيل من كون مؤسسات و مشاريع أخري خالصة الطابع المحلي ما زالت مقراتها الرئيسة الفعلية أو “المقنعة” بنواكشوط كشركة إنتاج السكر و شركة تسويق الأسماك و وكالة التضامن و البرامج و المشاريع الوطنية الخاصة بالزراعة و محاربة الفقر في مناطق ضفة النهر.!!
ثالثا: أوبة “الثقافة المركزية الحدية”: و يتجلي ذلك من خلال الزيادة المعتبرة “لمحفظة رواتب” الولاة و الحكام مقابل تجميد “محفظة رواتب و علاوات” العمد إضافة إلي إلغاء الوزارة الخاصة بتطوير اللامركزية و إلحاقها بالداخلية و إسناد القطاع الوزاري غالبا إلي ” ولاة سابقين” لا يحبون أن يحمدوا بأنهم من ” أعداء أو حمائم المركزية الإدارية”.!!
و في هذا الإطار فقد شاع و ذاع أن أحد قدامي العمد و مناضلي اللامركزية الظرفاء وصف الجمع بين الداخلية و اللامركزية في حقيبة وزارية واحدة بأنه جمع بين الشيئ و ضده قائلا بأنه كلما سمع من ينطق وزارة “الداخلية و اللامركزية ” تبدلت الداخلية بالمركزية و وقع في أذنه صدي كلمة “وزارة المركزية و اللامركزية”!!
و تبعا للمؤشرات السابقة يتضح لدينا أن سياسة اللامحورية تتطلب إحياء عاجلا أحسب أن المقترحات الثلاثة التالية قد تشكل معالم علي طريق ذلك الإحياء المنشود:-
أولا:- إنشاء خلية تابعة للوزارة الأولي اعتبارا لأن مسألة اللامحورية أفقية و “عابرة للقطاعات” و لا يستساغ إسناده ا إلي قطاع وزاري معين؛ يعهد إلي تلك الخلية بتصور و صياغة و إنجاز و تفعيل كل المقاربات و السياسات و البرامج الهادفة إلي إحياء اللامحورية و تقريب الإدارة من المواطن و جعل الخدمة الإدارية أكثر قربا و أرفع جودة و أقل كلفة…!!
ثانيا: إعداد و تنفيذ برنامج نموذجي لتعزيز اللامحورية في ولايتين يتم انتقاؤهما حسب محفظة معايير علمية منصفة و مقنعة و يتم تنفيذ البرنامج وفق خطة ثلاثية تطال السنوات 2017-2018- 2019بهدف التمكين التدريجي للامحورية باعتبارها رافعة من رافعات التنمية المناطقية المنصفة و العادلة و أداة من أدوات “تصفية استعمار” المركزية الحدية .!!.
ثالثا:دراسة استحداث أكاديميات للتعليم و الصحة بكل ولاية بحيث يتم مستقبلا اكتتاب منتسبي قطاعي التعليم و الصحة من طرف تلك الأكاديميات بعقود جهوية تمنع الخدمة خارج الدائرة الجهوية الخاصة بالأكاديمية و ذلك محاربة لظاهرة رفض أَجَاوِيدُ منتسبي التعليم و الصحة الخدمة بالمناطق الداخلية مما حول الأخيرة إلي مَكَبٍ خاص “بالبِطَاطِ العَرْجَاءِ”(Lame Ducks/Les Canards Boiteux)من منتسبي القطاعين.!!

المختار ولد داهي
سفير سابق

Exit mobile version