داخل مقهى البسيطي وجدتها وضيئة متأنقة ، لم أكن أفكر ساعتها إﻻ في تغطية المعرض و كيفية انجاز مهمة صديقي مع ” أسيمنس ” الشركة الزراعية العبوسة ، و التقيد الكامل بوصايته لي بالحفاظ و التحفظ في بلاد اﻻندلس ، لقد كان مستبدا في قيادتي متابعا لخطواتي ، أشعر بطيفه يرافقني في الشارع وينام معي على السرير ، لكن ألق الماضي الجميل ، ورياحينه الساحرة ، وعطره الفواح ، و نجومه المضيئة ، و جواريه الحسان ، و حدائقه المزخرفة ، ومواويله المدوية ، سرقتني فجأة و ظلت تشدني الى الوجه الجميل ، لقد كانت مﻻمحها قرطبية تصرخ وتحكي أمامي قصة أصالة حضارة رائعة ، قرأت التاريخ مسطورا في عينيها ، عربية تشاطرني الدم والقربى ، جالد أجدادي مع ابن تاشفين وابن عباد في معركة سهل الزﻻقة ، ووطئت خيولهم كل الدول والمماليك لتنبعث اﻻندلس من جديد وتعيش قرونا اربعة ، ربما كانت سليلة لواحد من تلك التيجان المتلاﻷة القادمة من صحراء الملثمين .
طلبتها على طاولتني وهو امر لم يجهدني كثيرا ، جلست الشمس بجانبي ، البداية عادة هي مشكلة الرجال ، ودون أي تردد و ﻻ تمهيد قلت لها أنا وأنت يجمعنا أصل و تاريخ ، تجهمت حتى ظننت أن المصابيح انطفأت ، وأن عاصفة سوداء بﻻ سحب في بداية الخريف قد داهمتنا ، تمنيت أن اﻻرض تبلعني ، أو أنني ما وطئت ” ماﻻوي ، وﻻ قرطبة وﻻ اشبيلية ، وﻻ بلنسية ” وﻻ أنا قرأت التاريخ ، تراءى لي طيف صديقي وهو يجلدني بلسانه ويقذفني بنظراته الحادة ، حاولت الهروب ، لكنها تعلقت بثيابي وأسارير وجهها تتفتح و غمرت مشاعري بأحاسيس أشرقت الكون من جديد ، أين تقيم أشرت بيدي الى جهة الفندق ، أخذت حقيبة يدها و سرنا في اتجاه الفندق ، دخلنا غرفة بديعة كأنها حديقة غناء ،
اشعلت المدفئ ، و داعبت بيدها مزهرية في الركن ، وقالت اتعرف ايضا أن عائلتي هي آخر أسرة ﻻ تزال تتوارث اللغة و تعلمها لمواليدها ، وأن اﻻعتزاز بمفاخر اﻻندلس يشعل فينا حماسا لعهدها الزاخر منذ ان أسسها الوليد بن عبد الملك كإمارة تابعة للدولة اﻻموية في الشام ، الى ان اعلنها عبد الرحمن الداخل دولة لبني امية في اﻻندلس عقب سقوط دولتهم في الشام واستيﻻء العباسيين عليها ، وأن قلوبنا المكلومة نزفت الدم واﻻلم من عهد الممالك والطوائف الى ان جبرتها رماح المرابطين وضمدتها سيوف الموحدين ، يا له من تاريخ مشرق تزينت مكتبات التاريخ بأبطاله وشدوه والحانه، انني أحس بالحان زرياب و بظرافة الجواري الﻻئي جمعن بين براعة الفهم والجمال الرائع ، كانت العبادية هنا تتبختر، و في قصر الملوك بقرطبة ضجيج اﻻحتفاء بالعلم والثقافة والفنون واﻻداب ، و اﻻنبهار بحكمة وجود عبد الرحمن بن معاوية و الملوك من بعده ، و المساجد تم بناؤها لتكون غرة روائع العمارة اﻻسﻻمية لكن الضعف واﻻنكسار أناخا فينا ، و دب الخﻻف من جديد لتعمل في اجدادنا سيوف القهر واﻻذﻻل ،وتطفئ ظمأها بالمذابح و التهجير ، واقع جميل ذبحه فرناندو الثاني و أنهاه بطريقة همجية .
نعيش اﻵن حضارة مادية مليئة بكل اسباب الراحة وضمانات العيش الكريم ، لكن الخواء يملأ اﻻرواح التي تصفق الرياح فيها إذ ﻻ شيئ سوى المادة ، فقدنا تلك الرؤية التي تزاوج بين اﻻثنين وتعتني بكليهما ، اغتالوا هويتنا الجميلة ، لم يبق من ذلك اﻻرث الثر سوى مﻻمح دفينة تختزنها أشكالنا و مشاعرنا ، و يعز لحظها من غير ذي فطنة أو دراية .
سيلفينا أنت أروع من أنفك المحدد كالسيف ، و من جدائل شعرك الحالك فوق جبينك الوضيئ ، ومن وجنتيك العسليتين السوداوين ، إن جمالك يتخطى حدود الخد اﻻسيل و العنق الطويل و القد المعتدل و اﻻناقة البديعة ، وجدانك مسكر ولسانك طافح بسحر البيان ، أوجعني حنينك لماض ليس في المقدور احياؤه ، و أطربني التعلق بتلك اﻷمجاد المتفجرة أنهارها في دمائك العربية ، اجدادي هم صناع تلك المصابيح التي بددت الظﻻم هنا ، و هم من زرع في سفوح هذه الجبال وعلى قممها بذور الحضارة التي تعشقين و تتيهين في براثين حبها ،
لقد أحرقني نطقك بيأس كنت أحسه دوما في العقل العربي فيصرعني اﻷلم ، وأقرأ احباطه و تخبطه في عدم سﻻمة المنهج ، وفي عنفه الدائر هنا وهناك ، إن النفوس القوية ﻻ تعرف الخذﻻن وﻻ اﻻستسلام ، إنها كالسيل الجارف يدمر الحواجز ويحطم السدود ، اﻻرادة هي امضى سﻻح و أنفذه إذا ما تعززت بالفهم الدقيق للمرحلة وما تتطلب من دفاع حضاري ناعم ، لن تموت قضية تعيش في العقول وتحترق القلوب من لهيبها ، ربما تكون بقية بركة في هؤﻻء اﻻحفاد، فينهضون بهذا الحمل الجسيم ، ان الثقافات العربية تتشابه الى حد بعيد ، والسياحة صنو التاريخ ، أو صورته الباقية .
ذهبنا الى المعرض وهي تتلهف لرؤية اشبال من تلك اﻻسود ، وثقافات وتقاليد ومشاهد من رحم الماضي السحيق ، فيحلق بها الخاطر بعيدا الى تلك الفضاءات الشهية الغابرة ، و تشتم نسائم ليالي اﻻندلس و تتجول بين حدائقها و جداولها و حقولها ، و كأنها تعيش زهو حياتهم و اريجها العطر ، و ترى بني عباد متنكبين السيوف واﻻقواس داخل اسوار قرطبة ، و تسمع صهيل خيول بني عامر في بلنسية ، و تشاهد بطليوس و الثغر اﻻوسط وحولهما رماح بني اﻻفطس ونبال بني ذي النون ، و اﻻنشاد الشعري في سمر اﻻندلس يمﻷ مسامعها ، فتصفق لابي البقاء الرندي وابن شهيد وابن هانئ وابن وهبون وابن حنون اﻻشبيلي ولحميدة بنت المؤدب وبثينة بنت المعتمد بن عباد وابيها ، و تسأل و تتعلم من ابن حزم وابن هانئ وابن عبد ربه ، و تخفق فيها اوتار العيدان والطنابير والمعازف و تدوي فيها اصوات الطبول ، زرياب قاعد على المسورة يعلم الجواري فنون العزف وضروب الغناء ، والعيدان تلعب بأوتارها غزﻻن وهنيدة .
عند مدخل المعرض هاتفني سيدي ، ارتعدت فرائصي فرقا من شدة مخالفتي سقط الهاتف من يدي، تمنيت اخفاء اﻻمر حتى ﻻ أفسد عليها حلمها الجميل ، ناولتني الهاتف وهو يرن مرة اخرى ” أسيمنس ” تراوغ في الصفقة ، ادركت بحسها الذكي أنني لم أعد منتشيا كما كنت قبل المكالمتين .
بالداخل قابلتها صور ولوحات جميلة ، و صناعات تقليدية رائعة ،كانت تعانق كل شيئ وتلثمه كالخبل السكران ، حاولت قراءة النقوش والخطوط ، واستبيان العلاقة بين اﻻلوان ، وفي كل مرة وأمام كل حالة يستوقفها الغموض تصرخ بي ناشدة تفسير كل شيئ ،لم أتعلم أصﻻ هذه اللغة ، ولم أكن أعرف أن لها معاني ، أجهدت نفسها وأخرجت الحاسوب الصغير من حقيبتها ، صورت اﻷزياء الصحراوية ومحابر العلم ورحى و مخدات وحقائب تقليدية و هودج وأشياء أخرى ، دخلت في خلوتها تناجي كونا افتراضيا كاملا ، تسأل عن اﻷشكال و التفاصيل ، تنفر وتستوحش المعلومات المتدفقة الى حاسوبها ، ان هذه اﻻشياء المعروضة لم تروي الظمأ المشتعل في أحشائي ، لم يسجل هذا الفن تاريخ اجدادي ، لم يلبس بردة التاريخ ، ولم تفح منه روائح الماضي ، إنه يشبه الحياة في هذا العصر ، و يتماثل مع واقعنا ، إذ ﻻشيئ هنا يقص حكاية الروح ، و يشرح القيم و المثل واﻻخﻻق ، تبا للعولمة التي ﻻ تعدوا كونها وجها مغشوشا لﻻستعمار ،
وقالت رحم المولى ابا عبد الله محمد بن علي ، و زفرت زفرة العربية اﻷخيرة .