“الرًوَاتِبُ المِلْيُونِيًةُ” بِمُورِيتانْيَا: أَعْشَاشٌ أَمْ جِنَاٌنٌ ضَرِيِبًيٌةٌ؟

تُثِيرُ الرواتب و التعويضات و المزايا الممنوحة لمشاهير الساسة و الوزراء و المنتخبين و كبار الموظفين جدلا و صخبا إعلاميا و سياسيا في العديد من مجتمعات العالم تكون أحيانا موضوع”اكتشافات و اختراقات” صحفية أو قضائية تملأ الدنيا و تشغل الناس حتي لجأت العديد من الدول الديمقراطية و “الدول السائرة في طريق الديمقراطية” إلي إلزامية النشر العلني لكل الرواتب و الامتيازات الممنوحة قانونا و تنظيما لكبار خُدًامِ الدولة من أصحاب الوظائف السياسية و الإدارية و الفنية “الدَسِمَةِ”.
و تسخينا للذاكرة، فقد شهدت رواتب العديد من كبار الموظفين بموريتانيا “قَفَزَاتٍ نَوْعِيًةٍ” خلال المرحلة الانتقالية الأولي بعد التغيير اللادستوري سنة 2005. تلك المرحلة التي صادفت ما أشبه ” طَفْرَةً مَالِيًةً” يُشاع علي نطاق واسع أن السلطات الانتقالية ساعتئذ لَمًا قررت أو أَيْقَنَتْ أَنْ لا مَنَاصَ من الرحيل عن “الدًارِ” “حَرَقَتْ الزًرَبَ” فوَجِهَتْ عائدات الطفرة المالية أساسا إلي تمويل “النفقات النًاعِمَةِ” و “حَرَمَتْ” منها الإنفاق علي “الاستثمارات الصًلْبَةِ”.
و أُشفعت تلك القفزات النوعية للرواتب لاحقا بإصلاحات و تحسينات جوهرها و غايتُها ضبط التسيب و التضخم و “النًفْخِ” الحاصل في مجال المزايا العينية الممنوحة لكبار الموظفين كالسكن و تحمل فواتير الماء و الكهرباء و الهاتف “الثًابِتِ و المُتَحَرِكِ” و شراء و صيانة “سيارات الخدمة”،… و ذلك من خلال تحويل تلك الامتيازات العينية إلي تعويضات نقدية مباشرة.
وهكذا يستفيد اليوم العديد من كبار الموظفين الموريتانيين من “رَوَاتِبَ مِلْيُونِيًةٍ”، “رَوَاتِبِ السِتًةِ أَرْقَامٍ” Salaires mensuels à six chiffres/ Six figures income ( والرواتب المليونية هي رواتب تزيد كثيرا علي المليون أوقية أو تنقص عنه قليلا مائة ألف أو مائتين) كما هو الحال بالنسبة للوزراء و السفراء و المستشارين بالرئاسة و الوزارة الأولي و الأمناء العامين و القضاة و البرلمانيين و عمد بعض العواصم الجهوية و مدراء المؤسسات ذات الطابع الصناعي و التجاري و مدراء المؤسسات و وكالات التنفيذ ذات الاختصاص الإداري و الإنساني!! و رؤساء و أعضاء بعض مجالس الإدارات و المستشارين و المدراء بوزارتي الاقتصاد و المالية،…
كما يتقاضي موظفون آخرون مبالغ دورية كبيرة في شكل علاوات و تعويضات و تشجيعات و “أَشِغَالٍ أو َصَنَادِيقَ خاصة”Travaux ou Fonds Spéciaux و اقتطاعات و نسب مئوية أو “ألفية” من عائدات المتابعة الضريبية و الجمركية و محاصيل مكافحة التهريب و التهرب و نهب الثروات الباطنية وردع المخالفات الجبائية و “السِيًادِيًةِ” ضف إلي ذلك جَمْعَ بعض ” الموظفين المحظوظين” للمزايا المليونية للعديد من الوظائف التنفيذية و الاستشارية و البروتوكولية…
و يلاحظ بعض المراقبين رغم شح المعلومات المتوفرة حول “جِبَابِ الرواتب و المزايا المليونية” عدمَ خضوع الجزء الأوفر من تلك الرواتب و “الكَرَامَاتِ المَالَيًةِ” الكبيرة الموصوف غالبا بعناوين من قبيل “العلاوة الخاصة”و “الأشغال الخاصة” و ” الصناديق الخاصة”،.. لمقتضيات الضريبة علي الرواتب أو الضريبة علي الدخل في حين تُخْصَمُ الضريبة علي الأجور خصما مسبقا من رواتب “مِجْهَرِيًةٍ” و”كفَافَيًةٍ” ينتظرها كل شهر بِبُطُونٍ مَطْوِيًةٍ المعلمون و الممرضون و البوابون و “الإِطْفَائِيُونَ” و الجنود المرابطون علي جبهات محاربة “تحالف الجرائم العابرة للحدود”…
و لئن كان القانون الضريبي الموريتاني صريحا من خلال الفقرة الأولي من المادة 63 في إعفاء علاوتي “التكليف الحكومي” و “التمثيل الانتخابي” وحدهما من الضريبة علي الأجور فإنه اعتبر في الفقرة الأخيرة من المادة نفسها خاضعا للضريبة علي الأجور كل علاوة أو امتياز أو تشجيع أو مكافأة أو إضافة ايا كانت طبيعتها تحمل مواصفات و “مَخَايِلَ” الراتب التكميلي. كما أن الإعفاء المطلق للعلاوات الحكومية و الانتخابية من الضرائب لم يعد موجودا إلا في بلادنا حيث تُخضع التشريعات الضريبية الفرنسية و المغربية و السنغالية مثلا تلك العلاوات للضريبة علي الأجر أو الدخل إذا تجاوزت سقفا معلوما..
ويختلف المختصون حول التكييف الضريبي لحالة الرواتب المليونية ببلادنا فمنهم من يعتبرها “أَعْشَاشًا ضَرِيبِيًةً”Niches fiscales/ Tax Break و التي تعني الاستفادة من تحفيزات و تخفيضات ضريبية يمنحها المشرع الضريبي و قد أحسن الضًالِعُونَ في المحاسبة حين صنفوها محاسبيا باعتبارها ” نفقات ضريبية”Depenses Fisclales و يدافع أنصار هذا الرأي بأن هذه الأعشاش الضريبية المتمثلة في الرواتب المليونية بموريتانيا موجهة لإعطاء رواتب مُجْزِيًةٍ و “عَاصِمَةٍ” من ” الانحراف المالي” لكبار “سَاكِنَةِ” الوظائف السياسية و الإدارية والفنية العليا.
فيما يعتبر فريق آخر من المختصين الرواتب المليونية ببلادنا ” جِناًنًا ضَرِيبِيًةً” Paradis Fiscaux/Tax haeven لا يعلم حجمها و لا تفاصيلها أصحاب ُالقرار السياسي و لو علموا بها لقوموا اعْوِجَاجَهَا. و يُبين هذا الفريق أن الجزء المتعلق من تلك الرواتب المليونية بالامتيازات و العلاوات و “الاقتطاعات” الجبائية الدًسِمَةِ يمثل تقاليدَ مالية و إدارية راسخة متوارثة جيلا عن جيل و ما منهم من راغب في تسليط الأضواء الكاشفة لاختلالات و “اعْوِجَاجَاتِ” وضعيتها القانونية.
و في تقديري أنه تناغما مع ِسًياق و مَسَاقِ تعزيز الشفافية المالية والأخلاقية الذي تُدَقُ طُبُولُهُ دَقًا و يُدَعُ بسببه المخالفون دَعًا فإنه يتعين إعداد و نشر تقرير مفصل تعده المصالح المختصة حول الرواتب و الامتيازات و “الكَرَامَاتِ” المليونية لكبار الساسة و الموظفين حتي يضطلع الرأي العام الوطني و دافعو الضرائب الموريتانيين علي مستوي “الأثمان” التي يدفعونها مقابل القيام علي شأنهم العام.

المختار ولد داهي،سفير سابق
خبير تقييم السياسات العمومية

Exit mobile version