الفسادُ هو هَازِمُ الاستقرار السياسي و الاجتماعي و هَادِمُ الأمم و الأوطان و الشواهد و الأمثلة نَاطِقَةٌ بالعديد من الدول و الشعوب و الحضارات الراسخة تاريخا و القوية مجتمعا و الثًرِيًةِ رِكَاًزا،… و التي ذهبت رِيحُهَا وسقطت هيبتُها و هُدًتْ أركانها و أضحت شِيًعًا و قبائلَ و عَصَائِبَ يَأْكُلُ بعضُها لحمَ
بعض “حَيًا و مَيِتًا” بفعل تفشي الفساد السياسي والإداري و المالي.
و يكاد يكون من المُتواتر عليه أن الفساد الذي خَلَا له الأمر فباض و نَقًرَ في هذه البلاد عقودا عديدة حتي أمسي الموظف المستقيم كالقابض علي الجمر، قد وُجِهَتْ له “ضربات معنوية” قاسية و إن كانت غير قَاضِيًةٍ خلال السنوات الأخيرة حيث لا زالت بعض جُيُوبِهِ و فُلُولِهِ عَنِيدَةً،عَصِيًةً مُسْتَعْصِيًةً؛ آَيَةُ تلك الضربات الموجعة الخوفُ الذي أضحي يَتَمَلًكُ العديد من الموظفين السامين “المُتَسَامِينَ” من تَلَطُخِ أعراضهم الاجتماعية و “المهنية” جراء “التشهير الإعلامي” بخُرُوقَاتِ “الخَطَايَا” و الأخطاء التسييرية.
و العارف بالإجراءات القانونية ” الخَلِيلِيًةِ” و المساطر الإدارية الأخطبوطية ببلادنا المتبعة في العديد من مجالات الخدمات العمومية ذات الأهمية الأساسية للمواطنين مدركٌ أن تلك المساطر هي بيت الفساد الأكبر ذلك أنها بتعقيدها و طولها و “تَصَحُرِهَا” و “تعدد تأويلاتها” و عدم مَقْرُوئِيًتِهَا،… تُغْرِي الموظف العمومي بالتحايل و الالتواء و الاعوجاج ظانا –حَدً وحَقً اليقين- بأنه من الصعب مُلاَحَظَتُهُ و الاهتداء إلي مخالفته كما تُلْجِئُ المواطن المُرَاجِعَ إلي “الاستعانة مدفوعة الثمن” بوسطاء غير شرعيين لتسهيل و متابعة المساطر الإدارية التي يَتِيهُ و يَضِلُ في مسالكها و محطاتها و دهاليزها سَيِدُ العارفين و شَيْخُ المُجَرِبِينَ.
و تتجاوز “الأخطبوطية الإدارية” البيروقراطية الإدارية التقليدية التي يمكن تعريفها بأنها “نوع من شطط الإداريين في استخدام سُلْطَانِهِمْ و صلاحياتهم بما يُعيق او يُثَاِقُلُ تأدية الخدمة العمومية و يقلل من النجاعة الإدارية” لتضيف إليها تعقيد و لا مقروئية وتنوع و تباعد محطات إعداد القرار الإداري وتعدد تأويلات النصوص القانونية و الإجراءات الإدارية المعمول بها في العديد من القطاعات الخدمية بحيث تَغْدُو المراجعات الإدارية أشبه بما يعرف في التكوين العسكري ” بتجاوز الحواجز” أو” مسار العَقَبَاتِ” بالنسبة للمراجعين Parcours d’obstacles/Obstacles race و أقرب إلي”أَعْشَاشِ التسيير و التَهَرُبٍ من المسؤولية” بالنسبة للموظفين.
و يعتبِر العديد من المهتمين بالشأن الإداري علي سبيل المثال أن مصالح وزارة المالية عموما و إدارات الضرائب و العقارات و الجمارك و الخزينة العامة خصوصا ومكاتب أعوان المرافق القضائية و مراكز الحالة المدنية وإدارات الإسكان و العمران و إصلاح العشوائيات و مصالح الإدارة الإقليمية و فروع شركتي الكهرباء و الماء،… هي إحدي أبرز معاقل و مخادع التعقيد و الأخطبوطية الإدارية حيث يَنْشُطُ وسطاء و “مُسَهِلُونَ” يَعْسُرُ أن تُنْجَزَ معاملة إدارية إلا بتدخلهم مقابل دفع ” إِتَاوَةٍ” يُسِرُ بعضُهم النًجْوَي –تَضْلِيلاً أو تَهْوِيلاً- بأنهم شركاء في رَيْعِهَا مع “غيرهم”.
و سبيلا إلي مزيد إحكام و تشديد محاصرة الفساد فإنه يجدر إعداد خطة متكاملة لترسيخ “ديمقراطية” المرفق العمومي من خلال تبسيط الإجراءات الإدارية و القانونية و شرحها و محاربة “الأَعْشَاشِ و الأَوْكَارِ التًسْيِيرِيًةِ”Les niches de gestion و تيسير نفاذ المواطنين إلي الخدمات العمومية.و لعل المقترحات التالية تساعد في إضاءة طريق خطة العمل المنشودة “لدمقرطة” المرافق الإدارية:-
أولا”: مراجعةُ النصوص المنشئة للإدارة العامة للتشريعات و التي أحسب أنها لم تعد الجهاز الانسب للإجابة و الاستجابة للطلب العمومي بالرقابة القَبْلِيًةِ علي الأعمال القانونية و الإدارية و ذلك من خلال ترفيعها إلي هيئة برتبة وزارة مُسلحة بطاقم عالي الكفاءة، قليل العدد تدعي ” المجلس الأعلي للشؤون القانونية و الإدارية” علي غرار “مجلس الدولة” بفرنسا ويكون من أول مَشْمُولاَتِهَا و أهدافها تبسيط الإجراءات القانونية و الإدارية و محاربة التعقيد و الأخطبوطية و شواكلهما؛
ثانيا: استحداث مكتب بكل مرفق إداري بشكل عمراني مميز موحد علي جميع التراب الوطني و بلوحة تعريفية لافتة يدعي “بيت المواطن”يُعني بالإرشاد و التوجيه و تسريع و تسهيل المعاملات الإدارية،يكلف به أحسن الموظفين خُلُقًا و خَلْقًا و أرسخهم خبرة و تجربة و ذلك في انتظار التفكير في إنشاء سلك من الموظفين العموميين يَحْسُنُ أن يطلق عليه ” المُسَهِلُونَ الإِدَارِيُونَ”Les Facilitateurs administratifs؛
ثالثا:دمجُ المجلس الأعلي للفتوي و المظالم مع مؤسسة وسيط الجمهورية نظرا لتقاطع مهامهما و إنشاء هيئة جديدة تدعي” دار الفتوي و الإصلاح و مناصرة المظلوم” تتألف من طاقم محدود العدد يتكون مناصفة بين الفقهاء العارفين العاملين من جهة و الإداريين و القضاة المتقاعدين الراسخين في العلم و التجربة من جهة أخري و تكون لدور الفتوي و الإصلاح و مناصرة المظلوم تلك فروع بكل مقاطعات البلد.
رابعا: إنشاء جائزة سنوية تمنح لأكثر المرافق العمومية شفافية و طهارة و نجاعة و سرعة في تقديم الخدمات الإدارية للمواطن مصحوبة بترقية إدارية للمسؤول الأول عن المرفق الإداري الفائز علي أن يعهد بتنظيم هذه الجائزة لهيئة وطنية قادرة علي إجراء قياسات علمية رصينة لجودة الخدمات يطمئن لنزاهتها كل المتنافسين و المراقبين كالمكتب الوطني للإحصاء أو المدرسة الوطنية للإدارة مثلا.
المختار ولد داهي ، سفير سابق